وأضاف أن "أميركا هي أقوى فكرة في تاريخ العالم وموجودة وراسخة في قلوبنا، وراهنت على الأميركيين والآن ثمة نور في نهاية النفق رغم ما يقوله المتطرفون والمؤمنون بتفوق العرق الأبيض".

لم تكن هذه المرة الأولى التي يتحدث فيها بايدن عن القرن الأميركي كما يتصوره ويراه وكما يحلم به، ففي خطابه الأول أمام الكونغرس، دعا إلى ضرورة مواجهة النفوذ الصيني لـ"للفوز بالقرن الحادي والعشرين"، وتعهد بالحفاظ على وجود عسكري قوى في منطقة المحيط الهادي، ليس لبدء أي مواجهة عسكرية مع الصين، لكن لتجنب الاضطرار لخوض هذه المواجهة، وهو التعهد الذي لاقى تصفيقا كبيرا من النواب الجمهوريين والديمقراطيين على حد سواء.

المفارقة الغريبة والمثيرة للدهشة هنا أن استدعاء بايدن لفكرة القرن الأميركي والقيادة الأميركية المنفردة للعالم في خطابه الأخير جاء في سياق الانتقادات العنيفة التي وجهها لسلفه الجمهوري ترامب وأنصاره واتهامه لهم بأنهم يريدون العودة إلى "أميركا التي لا يوجد فيها حق في الاختيار أو في الخصوصية"، قائلا بشكل صريح إن "الفرص والعدالة والحرية أمور يجب أن تحققها الديمقراطية لكن أنصار ترامب ينظرون إلى الولايات المتحدة ويرون المجازر والظلام وأنا أراها تحظى بمستقبل لا حدود له".

ووجه الغرابة وسبب الدهشة هنا مرده أن بايدن يتبنى مقولات ورؤية الجمهوريين المتشددين الذين ينتقدهم ويستعيد ويستدعي مشروعهم للريادة الأميركية المنفردة الذي يعملون عليه منذ نهاية القرن الماضي، والذي لم يسلم أبدا من انتقاداته أو تبني سياسات تبدوا في ظاهرها مناهضة له، ففكرة القرن الأميركي لم تكن وليدة أفكار بايدن ولا أي من رؤساء أميركا الديمقراطيين أو مفكريهم، بل العكس هو الصحيح، فهي كانت فكرة ورؤية ومشروع ما عرف في أدبيات السياسة الأميركية بتيار "المحافظين الجدد" الذي نشأ كحركة سياسية في ستينيات القرن الماضي كرد فعل على سياسات الحزب الديمقراطي "المسالمة" والانعزالية لا سيما في مجال السياسة الخارجية، ويعتقدون أن الولايات المتحدة يجب عليها استخدام القوة وشن حروب وقائية للمحافظة على نفوذها، وحماية مصالحها، وإرساء قيمها في جميع أنحاء العالم، ويدعون لإحلال السلام باستخدام القوة العسكرية كما أنهم معارضون لاستبدادي الخارج وانعزالي الداخل ويطالبون بمزيد من التدخل الأميركي في الشؤون الدولية، ومع الوقت أصبح العديد من أتباع الحركة ومنظريها فاعلين أساسيين في الإدارات الجمهورية المتعاقبة منذ السبعينيات، ووصولا إلى عهد جورج بوش الابن الذي شهد قمة تأثيرهم في القرار السياسي الأميركي حين لعبوا دورا رئيسيا في التشجيع لغزو العراق والتخطيط له في عام 2003، وقبلها غزو أفغانستان في عام 2001، وهما الحربين اللذان يعدان بداية التطبيق العملي لمشروع القرن الأميركي الجديد (PNAC) الذي ظهر في عام 1997 ويركز على السياسة الخارجية للولايات المتحدة الحفاظ وعلى تفوق القوات العسكرية الأمريكية، وتقوم فكرته ويبنى هدفه على أن يكون القرن الحادي والعشرون قرنا أمريكيا بامتياز، لا تنافس أمريكا فيه أي قوة ولا تشارك هيمنتها أي دولة، ولا تقترب من قدرتها وقدراتها أيا من منافسيها المحتملين، وتحديدا روسيا والصين، أو الماضي والمستقبل، فروسيا وريثة الإمبراطورية السوفيتية كانت في ذبول، والصين كانت في بزوغ متوقع، وأعلن وقتها مؤسسي المشروع من المحافظين الجدد أن هدفه تعزيز الريادة العالمية الأميركية لأنها "مفيدة وجيدة لأميركا وللعالم"، معلنين وقتها دعمهم لـ"سياسة ريغانية (نسبة إلى الرئيس رونالد ريغان) تقوم على القوة العسكرية والكفاءة الأخلاقية"، وتقلد عدد معتبر من منظرو هذا المشروع والموقعون على بيانه التأسيسي مناصب تنفيذيه هامة في إدارة جورج بوش الأبن وأثروا في تطويرها للسياسات العسكرية والخارجية، وخاصة تلك المتعلقة بالأمن القومي والحرب على الإرهاب وحروب أفغانستان والعراق، ومن بينهم إليوت أبرامز، مستشار الأمن القومي، ديك تشيني، نائب الرئيس، جيب بوش حاكم فلوريدا، إليوت أ. كوهين مستشار  وزير الخارجية، زلماي خليل زاد، سفير واشنطن في العراق وأفغانستان والأمم المتحدة تواليا، لويس ليبي، مدير مكتب ديك تشيني، دونالد رامسفيلد وزير الدفاع ونائبه بول وولفويتز.

ومع خسارة مرشح الحزب الجمهوري جون ماكين في انتخابات الرئاسة الأميركية عام 2008 أمام منافسه الديمقراطي باراك أوباما بدا أن المشروع جمد نشاطه بعد أن قام بالفعل بعمله وتم تبني أفكاره على حسب قول مديره التنفيذي غاري شميت، وفي ظل التوقعات بتبني الإدارة الديمقراطية الجديدة لرؤية مغايرة بدت معالهما سريعا في دوائر حركة السياسة الخارجية الأميركية، لا سيما في منطقة الشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا، ولكن بعد عودة الجمهوريين للحكم في عام 2017 بدا أن المشروع يستعيد زخمه حتى دون الإعلان عن ذلك صراحة، وهو الأمر الذي بدا جليا في الشعارات التي طرحها مرشحهم دونالد ترامب في حملته الانتخابية، لا سيما شعارها الرئيسي "اجعل أميركا عظيمة مرة أخرى"، وهو نفس الشعار الذي كان قد استخدمه رونالد ريغان في حملته الانتخابية الناجحة عام 1980، أو في السياسات الخارجية التي تبناها بعد فوزه بالرئاسة لا سيما تجاه الصين وروسيا ومنطقة الشرق الأوسط، وهي سياسات عكست وترجمت في مجملها شعار حملته الانتخابية الذي  يقترب كثيرا من مشروع القرن الأميركي الجديد، بل أنه عين في أحد أهم المواقع في إدارته واحدا من أبرز رموز تيار المحافظين الجدد وأحد الذين علموا على مشروع القرن الأميركي وأحد أركان إدارة الرئيس جورج بوش الأبن ، وهو جون بولتون الذي عينه ترامب مستشارا للأمن القومي، وهو كان معروفا عنه تأييده للانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران، وكذلك تأييده للحروب الاستباقية اذ كان أحد مهندسي غزو العراق في 2003، وكان من المؤيدين لتشديد العقوبات على روسيا، واستخدام الردع النووي الكلاسيكي ضد كوريا الشمالية مثلما حصل مع الاتحاد السوفيتي إبان الحرب الباردة، ودعا إلى أن يقوم الجيش الأميركي بعرض قوة ازاء بيونغ يانغ.

الخلاصة هي أن مشروع القرن الأميركي الذي تحدث عنه بايدن في خطابه الأخير كان دائما ذا نكهة جمهورية خالصة، ودائما ما يلقى قوة دفع هائلة أثناء حكم الجمهوريين ثم ما يلبث أن يجمد أو يعاد توجيه دفته أو تثبيط همته أثناء حكم الديمقراطيين، فما الذي تغير ودفع بايدن الديمقراطي باستعادة مصطلح واستدعاء مشروع جمهوري بالأساس؟  وهل هو فعلا قادر على فرض الريادة الأميركية المنفردة للعالم؟ أم أن حلم القرن الأميركي انتهى على يديه؟ إجابة هذين السؤالين هما محل المقال المقبل.