ولئن يستعير لافروف مقولة ونستون تشرشل الشهيرة حول ذلك "الستار"، فإن في تاريخية تلك المقولة التشرشلية عام 1946 والتي أسست للحرب الباردة، ما تجد في "ستار" لافروف تاريخية عبّرت عنها تصورات الحلف الأطلسي الاستراتيجية الجديدة وما سيتولد منها من تحولات كبرى تشمل العالم أجمع. 

عاد "الأطلسي" لينظر إلى عقائده بزاوية دائرية من 360 درجة.

عاد أمن الجهات الأربع ليكون جزءا من أمن العالم الغربي، بحيث أن مواجهة "العدو" لم تعد محصورة في الجغرافيا الأطلسية، وأن لميدان المواجهة جبهات تتوزع عليها المهام والأعباء.

وإذا ما تحتشد الدفاعات الأطلسية منطقيا على الضفة الشرقية بمناسبة الحرب ضد أوكرانيا، فإن خطة الأطلسي تعيد تفعيل الجبهة الجنوبية في بعدها الشرق أوسطي والأفريقي التي لطالما دار لغط في العقود الأخيرة حول أهميتها وأوليتها لا سيما في الحسابات الأميركية. لكن الخطة تلمّح أيضاً إلى بداية فتح جبهة داخل شرق آسيا.

لم تكن بريطانيا قبل على وفاق مع الولايات المتحدة في شأن توصيف الخصم الاستراتيجي. لندن كانت تعتبر أن روسيا هي ذلك الخصم الذي وجب الاستعداد لمواجهته عدواً كامناً. واشنطن، ومنذ عهد الرئيس باراك أوباما، باشرت تحوّلا استراتيجيا باتجاه الشرق لمواجهة أخطار الصين التي تعتبرها الخصم الاستراتيجي الأول. غير أن الحدث الأوكراني أحدث زلزالا في كل هذه المفاهيم.

تعترف دول الحلف الأطلسي، بما في ذلك الولايات المتحدة، أن روسيا التي كانت "شريكة" للحلف في وثائق عام 2010 باتت تشكل "التهديد الاستراتيجي الأكبر" للحلف في وثائق 2022. 

استفاق "الناتو" من غيبوبته وتعافى من "موته السريري"، وفق ما كان يشكو الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وعاد، موحّداً، ليكون اليد الضربة للمنظومة الغربية.

بات الحلف حيويا خلاقا في توفير سدّ لرد "التسونامي" الروسي الذي أوحى به التمدد صوب أوكرانيا وما يستبطنه من إطلالة على أوروبا مستوحاة من الزمن السوفيتي وقبله المجد القيصري، وفق أدبيات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. 

المفاجأة الصينية داخل الورشة الأطلسية جاءت ذات بعدين: 

الأول، بإعلان "الناتو" أن الصين ليست خصما لكنها تشكل "تحديات" للحلف الأطلسي مقارنه بروسيا التي تشكل "خطرا" استراتيجيا يستدعى الاستعداد الجدي والكامل لمواجهته الفورية. 

وعلى هذا فإن المنظمة الدفاعية الغربية، وعلى الرغم من التوافق الصيني الروسي، لا تضع البلدان في كفّة واحدة. والواضح في ذلك أن دول الحلف متعددة غير متجانسة في معاملة الصين، فيما هي موحّدة متفقة إزاء الموقف من روسيا.

الثاني، أن الولايات المتحدة استطاعت إقناع بقية أعضاء الحلف الأطلسي بإدراج الصين داخل مهام الناتو واستراتيجياته بعد أن كان الأوروبين عموما متحفّظين على موقف واشنطن من بكين رافضين للذهاب مذهبها في مناصبة العداء للعملاق الآسيوي. 

واللافت أن قبول الولايات المتحدة باستخدام وصف يعتبر أن الصين تشكل "تحديا" بدل ما تستخدمه تقليديا من أوصاف ترقى إلى مستوى الخصومة والعداء، يؤشّر إلى تحوّل ما داخل عقائد واشنطن الاستراتيجية. 

والأرجح أن واشنطن لم تغير من خططها الاستراتيجية الكبرى لمواجهة الصين في العالم وجنوب شرق آسيا عامة ومنطقة المحيطين الهندي والهادي “الإندو–باسيفيك” خصوصا، ولم تتراجع عن اعتبار الصين الندّ الأكبر والحقيقي والجدي للولايات المتحدة.

غير أن واشنطن، التي لطالما همّشت "الخطر" الروسي وعوّلت على إمكانات استيعابه أو تدجينه أو إقامة شراكات معه، تقرّ بخطيئة التقييم الاستراتيجي الأميركي في هذا الصدد، بحيث باتت "هزيمة" روسيا ووقف تمددها غربا هدفا يؤخّر أو يمنع تطوّر الحالة الصينية من مستوى "التحدي" إلى مستوى "العداء". 

"أستار" عديدة رفعها "الأطلسي في قراءته المُحدثة للعالم.

على أن راديكالية التحولات داخل الحلف الأطلسي، وما حملته من رسائل ردع ضد الصين، رفع من ديناميات تطور علاقات روسيا والصين بما يجرّ مياه إلى طاحونة بوتين الذي يطيب له استدراج بكين للانخراط أكثر في دعم روسيا في "مصابها" الراهن مع الغرب.

إذا ما رفضت بكين، على منوال ما فعلت موسكو، ما انتهت إليه قمّة "الأطلسي من تحوّلات، إلا أن بكين استنتجت بسهولة صدّ أوروبا للرواية الأميركية عن الصين، ما يجعلها تطمئن على متانة هامش مناورة تملكه لدى الأوروبيين فقدت كثيراً من مساحته لدى الأميركيين. 

ولئن يكتفي "الناتو" بصفته منظومة عسكرية غربية بالتعامل مع الصين في واقع اعتبرها "تحديا"، إلا أن حضور قادة اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا ونيوزيلندا الوافدين من آسيا يؤشر إلى ظهور أعراض أولى، فهمتها بكين جيدا، تستدعي أن ينبت للناتو جناح شرقي يتعامل مع ذلك "التحدي" بدينامية تقرأ الحالة الصينية، ولو بتأنٍ وحذر، من نصوص أميركية.