ولكن مهلا، فهذا النفع قصير الأمد، رغم أنه منحها القدرة على المناورة، ومكَّنها من صد التأثيرات المدمرة للعقوبات الغربية على الأمد القصير، بل وجعلها تُقْدِم على فرض عقوبات على دول أخرى، كقطعها إمدادات النفط عن بلغاريا وبولندا وفنلندا، بعدما رفضت أن تدفع أثمان مشترياتها من النفط والغاز بالعملة الروسية.

كما فرضت شركة الغاز الروسية العملاقة، (غازبروم)، عقوبات على فروعها الأوروبية، التي التزمت بالعقوبات الأوروبية على روسيا، مخالفة بذلك توجيهات الشركة الأم.

ولكن كيف استفادت روسيا من العقوبات الغربية التي كانت تستهدف إضعافها؟ استنادا إلى مسؤول العلاقات الخارجية في الاتحاد الأوروبي، جوزيف بوريل، فإن كلفة مشتريات الاتحاد الأوروبي من النفط والغاز الروسييْن تقدر بمليار دولار يوميا. غير أن إعلان الدول الغربية بأنها ستتوقف عن شراء الطاقة الروسية بحلول نهاية العام الحالي، قد تسبب في رفع أسعار النفط والغاز العالمية، الأمر الذي ضاعف تقريبا إيرادات روسيا المالية من النفط والغاز خلال الأشهر الثلاثة الأولى لعام 2022 (يناير-أبريل)، إذ بلغت 78 مليار دولار، مقارنة بحوالي 40 مليار دولار خلال الأشهر الثلاثة نفسِها من العام المنصرم، استنادا إلى بيانات وزارة المالية الروسية.

وقد مكَّنت هذه الزيادة في الإيرادات روسيا من الصمود أمام المقاطعة الغربية لها، ومواصلة الحرب دون صعوبات مالية، لأنها وفرت لها العملات الأجنبية التي تحتاجها.

الأمر الآخر الذي نفع الحكومة الروسية، هو أن المقاطعة الغربية للأسواق والشركات الروسية قد أفرغت البلد من البضائع الأجنبية، الأمر حتَّم على كثيرين توفير أموالهم لعدم وجود ما يمكنهم إنفاقها عليه. كما دفع شُح البضائع المستهلكين إلى البحث عن بدائل، محلية أو من دول أخرى لم تفرض عقوبات على روسيا، كالصين، أو حتى الاستغناء عن البضائع غير الضرورية وتوفير الأموال التي بحوزتهم إلى الأيام الصعبة اللاحقة، إذا ما استمرت الحرب لفترة طويلة، والتي يبدو أنها ستستمر، خصوصا مع تحوّلها إلى حرب استنزاف، كما صرح بذلك الأمين العام لحلف الناتو، جنز ستولتنبيرغ، أثناء لقائه بالرئيس بايدن مطلع الشهر الجاري. 

ولأن اندلاع الحرب قد حصل فجأة بالنسبة الاقتصاد الروسي، فقد صار إيجاد البدائل محليا بالسرعة المطلوبة أمرا صعبا، وهذا الأمر نفسه ينطبق على الدول الغربية التي باغتها التدخل الروسي في أوكرانيا وجعل موقفها حرجا، خصوصا الدول التي تعتمد اعتمادا كبيرا على الطاقة الروسية، ولم تتحصن ضد هذا الاحتمال، مع معرفة الجميع بأن المنظومة الحاكمة في روسيا، منذ تولى الرئيس بوتن الحكم عام 1999، لم تكن مرتاحة للوضع الجديد الذي وجدت فيه روسيا نفسها، كدولة متوسطة القوة والنفوذ، وليست دولة عظمى كما كانت إبان الاتحاد السوفيتي السابق.

لكن الوفرة المالية التي حصلت عليها روسيا بسبب ارتفاع أسعار النفط والغاز العالمية ستبقى مؤقتة، لأن العقوبات الغربية ستزداد شراسة بمرور الزمن، خصوصا مع توفر البدائل واتساع استخدام الطاقة المتجددة. ومن المحتمل أن تفرض واشنطن عقوبات ثانوية على الدول التي تشتري الطاقة من روسيا، كالهند والصين، ولكن، بعد التأكد من أنها لن تعود عليها بالضرر.

وإن لم تُحَل الازمة الحالية سريعا، وهذا غير مرجح حاليا، مع عدم وجود مبادرات دولية لحلها، وعدم استجابة روسيا لمطالبة محكمة العدل الدولية في 16 مارس/آذار الماضي بوقف الحرب، فإن روسيا سوف تتضرر أكثر فأكثر في الأعوام المقبلة. وحتى عند انتهاء الازمة، فإن من المستبعد أن تعيد البلدان الغربية العلاقات الاقتصادية والتجارية مع روسيا بالسرعة التي قطعتها فيها، وهذا ما يحصل في العادة، فقطع العلاقات يمكن أن يحدث فجأة نتيجة لحدث طارئ، لكن إعادتها تحتاج إلى وقت طويل وعملية تطبيع قد تستمر سنوات.  

ومن الإجراءات التي اتخذتها الحكومة الروسية لتمكينها من التحكم بالاقتصاد، هو إلغاء القيود على صرف الإيرادات الريعية في الموازنة العامة للبلاد لعام 2022، الذي مكَّنها من إنفاق تلك الإيرادات في القطاعات التي تحتاج إلى تمويل، ويأتي في مقدمتها الجيش والأمن والتصنيع العسكري. لكن هذا الإجراء سوف يقلص رؤوس الأموال المتوفرة لتمويل المشاريع التنموية الضرورية، خصوصا مشاريع البنى الأساسية، ما يباطئ النمو الاقتصادي، أو يدفعه إلى الانكماش، ويفاقم البطالة.

العائدات الريعية لا تصنف في علم الاقتصاد على أنها دخل، بل يوضع الصافي منها (بعد استقطاع التكاليف) في خانة رأس المال (K)، وليس الدخل (Y)، لأن الدخل في العادة يأتي من النشاطات الاقتصادية الحقيقية، الإنتاجية والخدمية، بينما يتعلق الريع بالثروات الطبيعية وما تجود به الأرض، دون جَهد أو بقليل منه. والدول الناجحة اقتصاديا، هي التي تتمكن من استخدام أموال الريع في الاستثمار في المشاريع الإنتاجية المجدية اقتصاديا والمولِّدة للثروة، ولا تلجأ إليها إلا أثناء الأزمات كاحتياطي مالي. 

اعتبار الإيرادات الريعية دخلا، كما يحصل في العراق، مثلا، منذ فترة السبعينيات حتى الآن، يشوِّه الاقتصاد، ويخلق ثروة زائفة وبطالة مقنَّعة، ويشجع الكسل والاتكال على إيرادات الموارد الطبيعية، التي هي متأرجحة في أسعارها ومؤقتة بطبيعتها، بسبب التطورات العلمية والتغيرات الحاصلة في الاقتصاد العالمي.

إضافة إلى ذلك، فإنه يشجع العزوف عن الإنتاج والابتكار والإبداع، ويشجع العادات الاستهلاكية عند السكان. وبسبب غياب الإنتاج أو تدنيه، فإن الاستهلاك سيعتمد بالدرجة الأولى على الواردات. والأخطر من هذا، أن الاعتماد على الإيرادات الريعية، يشجع الفساد بسبب سهولة الحصول على النقد عبر استغلال المنصب وتلقي العمولات مقابل تسهيل العقود الاستهلاكية.

لقد ساهم تدخل البنك المركزي الروسي، برفعه أسعار الفائدة إلى 20%، وفرضه قيودا صارمة على حركة رؤوس الأموال، في استقرار العملة الروسية، التي تدنت كثيرا في بداية الحرب. إضافة إلى ذلك، فإن استمرار روسيا في تصدير الطاقة إلى أوروبا وبأسعار مرتفعة، قد خفف كثيرا من الأزمة الخانقة التي شهدها الاقتصاد الروسي عند بداية العقوبات.

ويقول ياكوف فيغن، خبير الاقتصاد السياسي في معهد بيرغرون (Berggruen) الأمريكي، إن الروس تمكنوا من تعزيز استقرار الاقتصاد، وكان هذا متوقعا، "لكنه لن يساعدهم على الأمد البعيد. لن تكون هناك طوابير على المواد الغذائية قريبا، لكن هذا محتمل مع بقاء الأوضاع على وضعها الحالي".

وتتوقع وزارة الاقتصاد الروسية، وفق ما نشرته صحيفة (فيدوموستي) الروسية بتأريخ 26 أبريل/نيسان 2022، أن الناتج المحلي الإجمالي الروسي سوف ينكمش بنسب 8.8% خلال العام الجاري، نتيجة للعقوبات الغربية، لكنها تتوقع أن يعود إلى النمو بنسبة 1.3% في العام المقبل، و4.6% في عام 2024، و2.8% في عام 2025. ومثل هذه الحسابات مطاطة، لأنها تعتمد على متغيرات كثيرة وعلى السنوات المتخذة مقياسا لحساب النسبة. مع ذلك، يمكن اعتبار هذا التنبؤ متفائلا، لكنه في الوقت نفسه اعتراف بفاعلية العقوبات الغربية.

كانت روسيا قد اتخذت إجراءات لتحصين اقتصادها، إثر العقوبات المحدودة التي فُرِضت عليها بعد ضمها شبه جزيرة القرم، فراكمت ما قيمته 640 مليار دولار، على شكل ذهب وعملات أجنبية، وفقا لموقع (إنتلينيوز) الروسي الرسمي، لكن استهداف العقوبات الغربية للبنك المركزي الروسي، أعاق الوصول إلى نصف هذا الاحتياطي المالي، باعتراف وزير المالية الروسي، أنتون سيليونوف، الذي نقلته جريدة (إنسايدر) الاقتصادية في مارس الماضي.

يأمل الغربيون أن يتمكنوا خلال هذا العام من الحصول على بدائل للطاقة الروسية، كي يتمكنوا من التحرر من التحكم الروسي باقتصاداتهم، وإذا ما تحقق هذا خلال العام المقبل، فإنه بالتأكيد سيكون على حساب روسيا، خصوصا إذا ما بقيت العلاقات متوترة بينها وبين العالم الغربي، ولا شك أنها ستبقى، إلا إذا تغيَّرت المنظومة السياسية الحالية، وحلت محلها منظومة أخرى يمكنها أن تؤسس لعلاقات تفاعلية على أسس مختلفة.

يبدو أن الحرب الروسية-الأوكرانية سوف تبقى تراوح مكانها في منطقة الدونباس، التي تسعى روسيا للسيطرة عليها، في حين أبدى الأوكرانيون مقاومة شرسة، رغم تقديمهم خسائر بشرية ومادية كبيرة. وحسب الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينيسكي، الذي نشرته وسائل إعلام عديدة، بينها بي بي سي، فإن مئة أوكراني يقتلون يوميا في الدونباس، بينما بلغ عدد اللاجئين في الخارج والداخل 14 مليونا، حسب بيانات الأمم المتحدة. أما الخسائر الروسية، فلم تعد معروفة بسبب توقف الحكومة عن الإعلان عنها.

ليس في مصلحة روسيا أن تتوسع الحرب أكثر مما هي الآن، ولكن محاصرتها أوكرانيا ومنعها من تصدير القمح، قد يدفع حلف الناتو، كما أشارت بعض المصادر، إلى فك الحصار عبر أرسال سفن حربية لمرافقة السفن الناقلة للقمح، وقد يتسبب هذا في احتكاك عسكري مباشر مع القوات الروسية.

لا شك أن المساندة الغربية، العسكرية والاقتصادية، الواسعة النطاق لأوكرانيا، سوف تمكِّنها من الصمود وصد الهجمات الروسية. وهذا الدعم، ليس من أجل أوكرانيا فحسب، بل لأن الأوروبيين، ومعهم حلفاؤهم، يشعرون بأن الخطر الروسي يتهدد أوربا برمتها. يبقى تأثير العقوبات الغربية على روسيا بعيد الأمد، خصوصا وأن العديد من الدول الأوروبية لم تتوقف عن استيراد الطاقة الروسية، ما يعني أن الإيرادات الريعية الروسية سوف تتواصل خلال هذا العام. أما في الأعوام اللاحقة، فإن المشهد سيختلف دون شك.