كان الاستنزاف شديداً مسَّ كلّ شيءٍ في البلاد: المجتمع، والاقتصاد، وموارد العيش، وقيمة العملة الوطنيّة، والقدرة الشّرائيّة للمواطنين، والحياة السّياسيّة، والأمن الاجتماعيّ.. إلخ. تسعةٌ وعشرون شهراً كانت امتحاناً مديداً قاسياً للبلاد: للدّولة والمجتمع على السّواء.

التّسعةُ وعشرون شهراً هذه كانت تكفي للانقضاض على كثيرٍ من المكتسبات التي حقّقتها البلاد منذ العام 1952. كانت تكفي لتعيد مصرَ عشرات السّنين إلى الوراء؛ أن تُربكَ الدّولةَ ومؤسّساتها وتفرض عليها انكفاءةً اضطراريّة إلى مواقعَ دفاعيّة عن وجودها وسلطتها؛ أن تُفقِدَها القدرةَ على الإمساك بالأوضاع السائلةِ مفاجآتٍ غير متوقّعة؛ أن تضغط ضغْطَ الخناق على المعيش اليوميّ لعشرات الملايين من النّاس؛ أن ترفع معدّل الشّعور الجمْعيّ بالخوف من المجهول؛ أن تهزّ الأمن والاستقرار وتُعطِّل آلة الإنتاج.. إلخ. ولكن، أيضاً، كان ما جرى من أهوالٍ كافياً لأن يتحوّل إلى دافعٍ إيجابيّ لدى مِصْرَ المجتمع والدّولة إلى وقف هذا المسلسل الانحداريّ، وانتشال البلاد من وهدتها لتأمين قَوْمتها من جديد.

ولم تكن 30 يونيو/ 3 يوليو 2013 غير تلك اللّحظة التّاريخيّة التي انقلبت فيها مِصْرُ على ضَعْفها وعلى استضعافها؛ التي صوّبت فيها عِوَجاً انتاب سيرتَها ومسيرتَها واستولى عليها حتّى كاد أن يأخذها إلى المَهالك. وبإرادةٍ واحدةٍ موحَّدة، نفضت عنها هَوَاناً أُلْحِق بها، واستعادت زِمام سلطةٍ اختُطِفت على حين غِرّة، بل ووقَع توسُّلُها أداةً لتغيير شخصيّة مِصْرَ وثوابتها الوطنيّة والعربيّة. ثمّ لم تلبث، بعدها، أن طَوَتْ صفحةَ التِّسعةِ وعشرين شهراً العِجاف لتنطلق، من جديد، وكأنّ ما جرى لها محضُ عثْرة قدمٍ عارضة.

وما من شكٍّ في أنّ انصراف مِصْرَ إلى استعادة الاستقرار، ومعه استعادة عافيتها، كان باهظ الأكلاف عليها بعد إزاحة نظام "الإخوان"؛ إذ ليس قليلاً ما دفعتْه من ضرائب بشريّة هائلة (مئات المواطنين والجنود ورجال الشّرطة الذين سقطوا برصاص الجماعات الإرهابيّة)، وماديّة هائلة (موارد الإنفاق على الحرب ضدّ الإرهاب)، ناهيك بالضّائقة المعيشيّة التي كانت من نواجم فترة تعطُّل الدّورة الإنتاجيّة، ومن آثار الفوضى التي ضربتِ الاقتصاد والمالية وقيمة العملة، فرفعتِ الأسعار وأتت على القدرة الشّرائيّة في مَقْتل. ومع ذلك، ما كان يسع مِصْر غير أن تدفع تلك الضّرائب وتتحمّل وطأتَها الشّديدة من أجل إخراج نفسها من مستنقع الانهيار الشّامل الذي قُذِفت إليه.

والحقّ أنّه ما كانت مِصْرُ قد نجحت في إخماد لهب بؤر الإرهاب، التي فُتِحت في مدنها وفي شمال سيناء، حتّى كانت قد شرعت في إطلاق سلسلة من مشاريع البناء التّحتيّ والاقتصاديّ الهائلة، التي سيتغيّر بها وجهُها مستقبلاً، وفي متابعة إنجازها في مُهَلٍ من الزّمن قياسيّة بدت معها وكأنّها تسابق الزّمن، لتتدارك ما فاتها؛ لا في العاميْن ونصف العام السّابقة لانتفاضة يونيو فحسب، بل ما فاتها في عقودٍ قبلها. إنّ مشروع قناة السّويس الجديدة، مثلاً، ومشروع محطّة الطّاقة النّوويّة بالضبعة لإقامة أربع مفاعلات لإنتاج الطّاقة الكهربائيّة، ومشروع محطّة للطّاقة الشّمسيّة لإنتاج الكهرباء، وبناء عدد هائل من المدن لاستيعاب الأزمة السّكانيّة وتَوْسعة نطاق المشروعات التّنمويّة، ومشروع العاصمة الإداريّة الجديدة في القاهرة، ناهيك بإنشاء مدن سياحيّة في منطقة العلمين في السّاحل الشّماليّ، وإحداث مجمع صناعيّ على أطراف القاهرة، والمتحف القوميّ، ومشاريع الإسكان في كبرى مدن البلاد، وتحديث البنى التّحتيّة وتأهيلها، والنّهوض بالزّراعة وبالرّيف المصريّ عبر مشروع المليون ونصف المليون فدّان، وسوى ذلك... لهيَ من البرامج الكبرى للتّنميّة التي تشهد عليها مصر منذ ثمانية أعوام.

قسمٌ من هذه المشاريع استُكمل إنجازُه، وآخر ما يزال في طور الإنجاز. لكنّ ما أُنجِز أتى نتائجَه تحسيناً كبيراً في الوضع الاقتصاديّ والأوضاع الاجتماعيّة، والخِدْمات العامّة، وفي قيمة الجنيه ومستوى القدرة الشّرائيّة، وفي فرص العمل التي فُتِحت لمئات الآلاف من الأيدي العاملة. ومن المعلوم أنّ مثل هذه المشاريع الكبرى لا يكون، دائماً، فوريَّ العائدات والنّتائج؛ فآثارُه لا تتبيّن إلاّ على مدًى زمنيّ أبعد. والمؤكّد أنّ صورة مصر بعد عقدٍ ستختلف عن صورتها اليوم، وستكون في وضْع يؤهّلها لأن تنهض بأدوارٍ كبيرة في محيطها العربيّ نظيرَ أدوارها التي نهضت بها في عصر محمّد عليّ وإبراهيم باشا وفي سنوات الأربعينيّات- السّبعينيّات.

ما تنعم به مِصْرُ من استقرار إنّما حصل بجسيم التّضحيّات: تضحيات من يدافع - بمشروعيّةٍ - عن وجوده الذي تعرّض للتّهديد. والاستقرارُ هذا وحده الذي تستطيع به مصر أن تكسب معركة التّنميّة والبناء والنّهضة؛ فهو وإرادةُ شعبها الرّأسمال الأهمّ.