قد يرى البعض أن تلك "كذبة بيضاء" لا تخرج عن مزايدات السياسيين المعتادة تأتي في سياق تعبئة الرأي العام الذي يتأثر بالإعلام والتصريحات. وهذا صحيح نسبيا، فالناس العادية تتعاطف مع ما يصور على أنه مظلوم، خاصة لو كان من العرق القوقازي ويشبهها على الأقل من حيث "لون البشرة والشعر والعينين".

منذ نهاية القرن الماضي ومطلع هذا القرن، ومع اتشار وسائل التواصل عبر الإنترنت على الهواتف الموبايل، بدأت محاولات حشد وتعبئة الجماهير تفقد زخمها. ولم يعد كذب السياسيين ولا تلفيق الإعلام وتضليله ينطلي على الجماهير كما في السابق. خاصة حين يتعلق الأمر بالحرب، من حرب الفوكلاند مع الأرجنتين إلى حرب أفغانستان إلى العراق إلى ليبيا.. إلى آخره. فالجماهير العادية، في بريطانيا كما في بقية دول الغرب خاصة الولايات المتحدة، تقيس كل شيء بما يعود عليها بالنفع المباشر ويؤثر في حياتها اليومية وليس بشعارات الأيديولوجيا والدعاية السياسية المفخمة.

في الحملة الدعائية لأنصار خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي "بريكست" عام 2016 أطلق الفريق الذي تزعمه بوريس جونسون وقتها كذبة فجة في إعلانات على الحافلات أن بريكست سيوفر لنظام الرعاية الصحية البريطاني عدة ملايين تأخذها أوروبا أسبوعيا. طبعا إضافة إلى التخويف من أن هجرة العمالة من أوروبا إلى بريطانيا تضر بفرص العمل للبريطانيين وتقلص دخولهم. طبعا حين يتعلق الأمر بالمال، يصوت البريطانيون بحماس. وبعد الاستفتاء والبريكست نفسه قضت المحكمة البريطانية بأن تلك كانت كذبة صريحة وواضحة.

البريطانيون الآن، وإن تعاطفوا مع الأوكرانيين باعتبار بلدهم يتعرض لهجوم روسي، متذمرون من ارتفاع كلفة المعيشة نتيجة الحرب ويرى كثيرون أن دفع حكومتهم باتجاه استمرار الحرب يزيد من معاناتهم المعيشية. في الوقت نفسه، تخشى أصوات كثيرة من التعبير عن اعتراضها هذا كي لا يتهموا بأنهم "ليسوا ضد العدوانية الروسية" – بالضبط كما يخشى كثيرون من انتقاد بعض تصرفات إسرائيل تجاه الفلسطينيين كي لا يتهموا بمعاداة السامية.

قبل أسبوع، حكى لي صديق بريطاني (شعره أشقر وعيونه زرق) وهو دكتور في إحدى الجامعات البريطانية المرموقة ويعيش في الريف لأنه لا يستطيع تحمل كلفة المعيشة في المدينة، أن أهله – وهم أناس عاديون – لا يبلعون ما يروجه الإعلام وتصريحات السياسيين عن موقف بلادهم من حرب أوكرانيا. لكنهم حتى يترددون في التعبير عن معارضتهم على مواقع التواصل كي لا يبدو موقفهم أنهم "مع بوتن". وأضاف أن ذلك موقف كثيرين، يرون أن الحكومة البريطانية لا تهتم بهم ولا بتحميلهم كلفة سياساتها الخارجية من جيوبهم في غلاء الأسعار وزيادة الضرائب وقلة الأجور.

الأرجح أن الحكومة البريطانية الحالية، وهي حكومة حزب المحافظين المعروف بأنه حزب الأغنياء والشركات، تزايد على الجميع في الموقف ضد روسيا ومع أوكرانيا لمصلحة ما – بعيدا طبعا عن كل الشعارات الجوفاء حول العدل والحرية وحقوق الإنسان التي تستخدم غالبا لأغراض أخرى من قبيل "الحق الذي يراد به باطل". فقد زاد بريكست من علل الاقتصاد البريطاني، وبدأت بريطانيا تفقد جزءا من ميزتها الأساسية كمستودع ثروات أغنياء العالم ومجرميه ولصوصه. فمنذ عقود، أصبح القطاع المالي والخدمات المحيطة به من استشارات وخدمات عقود وتقاضي وحل نزاعات مصدر دخل رئيسي مع تراجع الصناعة والتجارة.

تريد بريطانيا استعادة دور رياديا في العالم باعتبارها "الصراف العالمي" و"المستشار العالمي" الأول والرئيسي، الذي يقوم بعد و"تستيف" أو "غسيل" فلوس الأغنياء وتقديم المشورات المالية والقانونية والسياسية. وجاءت الحرب الروسية في أوكرانيا فرصة لتعيد بريطانيا تقديم نفسها باعتبارها "وصيفة" القوة العظمى الوحيدة في العالم: الولايات المتحدة.

لكن من الواضح أيضا أن تلك المحاولات البريطانية تبدو يائسة إلى حد ما، فالمزايدة على أوروبا في الموقف من حرب أوكرانيا قد لا تعود بالفوائد المرجوة بريطانيا. بالضبط، كما أن البريكست لم يوفر شيئا لنظام الرعاية الصحية البريطاني وهو ما بدأ الناس العادية في بريطانيا يشعرون به بعد فوات الأوان. حتى استراتيجيا، وعلى صعيد العلاقات الخارجية ووضع بريطانيا الدولي فالأميركيون معنيون بأستراليا واليابان وألمانيا بقدر اهتمامهم بالعلاقة مع بريطانيا إن لم يكن أكثر.

تشبه المحاولات البريطانية إلى حد كبير محاولات الإدارة الديموقراطية في واشنطن لرئاسة جو بايدن. فاستراتيجية البيت الأبيض هي محاولة أيضا لاستعادة دور ريادي في العالم عبر قيادة تحالف غربي واسع. وبالطبع يحتاج ذلك لعدو، وهدف بايدن المعلن حتى من قبل انتخابه هو "مواجهة صعود الصين وروسيا عالميا". ومما يظهر أيضا يأس المحاولة الأميركية أنها لم تستطع قيادة مجلس الأمن لإدانة روسيا، وحين نقلت الأمر إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة وقفت نصف دول العالم تقريبا في الجهة الأخر، إما بعدم حضور التصويت أو الامتناع عن التصويت أو الاعتراض المباشر. وهكذا، بدلا من تعزيز دورها في العالم تبدو واشنطن فعلا وأنها تقسم العالم إلى نصفين (على طريقة الجماعات الإرهابية: فسطاطين)، أو حتى إلى تكتلات متعددة. وربما يكون نصيب المحاولات البريطانية أقل حظا حتى من محاولات أميركا اليائسة.