ليس نقصاً في المعروض، ولا صدمة في الطلب، ما تعانيه السوق النفطية اليوم، مخاوف ناشئة عن أخطر أزمة تواجهها دول العالم في أوكرانيا، لتظل تداعياتها المستقبلية وتطوراتها المتسارعة هاجساً لأقطاب الاقتصاد، ما دام النزاع مرشحا للتوسع.
المنعطف الخطير الذي دخلته سوق النفط، هو ذات المنعطف الذي يقف عليه العالم، دوله وشعوبه، بسبب الأزمة، التي ينتج عنها كل يوم مزيد من الصدمات والتعقيدات، لتكون المواقف الحكيمة هي المطلوب في ردود الفعل على الأزمة.
تتواصل السيطرة الروسية على أوكرانيا بعملية عسكرية مرهقة، كما تتسارع العقوبات على روسيا ليصبح رصيدها منها الأعلى بتاريخ الدول (5500 عقوبة حتى الآن)، لكن السيطرة على أسعار النفط ليست بالسهولة ذاتها، فبراميل الخام لا تتدحرج عبثاً، ولا تسير على قدمين!.
السوق النفطية شديدة الحساسية للمعلومات المتدفقة كل ثانية، فيمكن على سبيل المثال لصورة من أرض النزاع، أن تشعل الأسعار وتقفز بها في يوم واحد بمقدار ما عجزت عنه في الصعود خلال عام أو عامين. الأزمة الحالية تتخذ من الطاقة عنوانا لها لكنها لم تترك ذرة من معطيات الاقتصاد ومؤشراته إلا وعبثت بها أو أربكت حساباتها على الأقل.
لا شك أن تعقيدات توازن السوق النفطية من العرض والطلب، بعيدة تماماً عن تعقيدات السوق النفطية العاجلة التي يسيطر على جانب منها المضاربون الذين يتلقفون كل معلومة، وكل تطور ويعترفون بالتنبؤات المستقبلية سريعاً، فتبدو الأزمات أمامهم أكثر وضوحا على وجه المؤشرات الاقتصادية، وأكثر صراحة على أسعار الأصول والسلع وأولها النفط.
الدعوات المتسارعة الموجهة صوب دول مجموعة أوبك بلس، في تحمل مسؤولية سد مخاوف الأزمة، تتجاهل الدور الحيوي لهذه المجموعة النفطية، التي لطالما انطلقت من مواقف مبدئية لأعضائها، وظلت متماسكة بل توسع أثرها من أعضاء أوبك الـ 13 إلى أوبك بلس التي تضم 23 دولة منها السعودية والإمارات وروسيا.
مواقف دول أوبك بلس، وبحكم الطبيعة الاقتصادية لهذه المجموعة، تتشكل وتأخذ نصيبها من الشد والجذب، وفق مبادئ وحصص دولها ومصالح شعوبها، وسياسات يمكن المناورة بها، ولكن بناء على التزامات وطنية لكل دولة، أو استجابة لأزمات عالمية كان آخرها جائحة كورونا، وتداعيات تلك الجائحة على اقتصاد كل دولة عضو في هذه المجموعة.
الأزمة في أوكرانيا شديدة التعقيد، والتعامل مع السوق النفطية بمفهوم "تحريضي" لن يفلح في مواجهة تعقيدات الأزمة، لأن المراهنة على الطاقة الإنتاجية الفائضة لدى دول أوبك بلس، ينظر إليها بعقلانية، على أنها ترسانة إضافية من الثقة والأمان، وتشبه في جانب منها الترسانة النووية، فهي سلاح يحاز ولا يُستخدم.
بالتسرع تفقد الأسلحة الرادعة قيمتها، ولو استجابت مجموعة أوبك بلس لكل هزة من الهزات الماضية بذات القدر، وبذات السرعة لاستنفدت الكثير من طاقتها وقدراتها في صد هجمات المضاربين الذين ينشطون وقت الأزمات، ونحن اليوم نعيش في أزمات متوالية، بل بات الباب مشرعاً للأزمات وتفاقمها أكثر من أي وقت مضى.
الدعوات الأميركية لزيادة ضخ النفط، تناقضها على أرض الواقع، حقائق أن الولايات المتحدة نفسها تنازلت عن عرش الإنتاج العالمي النفطي لروسيا، واليوم تحظر استيراد النفط والغاز الروسي، كما أسهمت واشنطن بخفض القدرات الإنتاجية العالمية، عبر دفعها لمعايير طرحت في قمة "غلاسكو" للمناخ لطالما ظلت تسهم في خفض استثمارات الوقود الأحفوري وبالتالي تراجع الإنتاج.
حاولت الإجراءات الأميركية والأوروبية، في بداية النزاع تجنب قطاع الطاقة الروسي مباشرة، لكنها سرعان ما "كبّلت" قطاعات أخرى كالنقل والقطاع المالي، ثم سرت شيئا فشيئا على واردات الطاقة الروسية إلى أميركا، على الرغم من أن الالتزام بهذه القيود شابه من الجانب الأوروبي التردد والاعتراف بعدم القدرة على الاستغناء عن الغاز والنفط الروسي في الوقت الحالي.
في المشهد الأوسع، تركت جملة العقوبات ضد روسيا أثراً وخيماً على قطاع الطاقة العالمي، وقفزت بأسعار النفط والغاز لمستويات لم تكن متوقعة، وسيتواصل هذا الأثر المؤلم للأزمة في التمدد على مختلف أنشطة الاقتصاد، ما لم تنطلق الحلول من رحم النزاع الراهن، فمن غير المعقول صب الزيت على النار المشتعلة، ثم محاولة إطفائها من مكان بعيد.