بالمقابل فَهم النظام السوري، لا سيما في عهد الرئيس الراحل حافظ الأسد، بدقة هذه المقاربة. تعاملت دمشق مع واشنطن بصفتها "حاجة" أمنية لإسرائيل من الأفضل على واشنطن الاعتراف بضروراتها. وحتى في مرحلة صعود الجماعات التابعة لإيران في لبنان ورواج أنشطة خطف الأجانب في ثمانينيات القرن الماضي، عرضت دمشق نفسها وسيطا لا بد منه لمعالجة كثير من الملفات الأمنية التي تهم الولايات المتحدة وحلفاؤها في أوروبا.

لم تحدْ دمشق يوما عن هامش المتاح ولم تتخط الخطوط الحمر في كل ما يتعلق بأمن إسرائيل. وإذا ما كان إسكات جبهة الجولان منذ حرب أكتوبر 1973 دليلا واضحاً على احترام دمشق لهذا "المحرم"، فإن نفوذها في لبنان إبان وصايتها هناك بقي في الجغرافيا والعدّة والعدد محكوما بتفاهمات مع إسرائيل يتبادل داخلها الطرفان الاختراقات توسّلا لرعايات أميركية مستحدثة.

والحال أن أداء دمشق في أمر احترام شروط أمن إسرائيل، وعلى الرغم من الخطاب الشعبوي المعهود، حظي برضى من الجانب الإسرائيلي، وهو ما يفسّر تحرّك أدوات إسرائيلية في واشنطن لمنع أي ضغوط تهدد النظام السوري في مرحلة اندلاع المواجهات الداخلية عام 2011. وكان ساسة ومؤسسات الفكر في إسرائيل يعتبرون أنه من الأفضل التعامل مع نظام تمّ اختباره، وتجنب القفز نحو الفوضى وعدم اليقين على المنوال الذي حصل إثر سقوط نظامي الحكم في العراق وليبيا. وسُجل لرامي مخلوف في مايو 2011 -وكان حينها أحد أعمدة السلطة في دمشق- أن حذر إسرائيل من على صفحات النيويورك تايمز أنه "لن يكون هناك استقرار في إسرائيل" إذا لم يكن هناك استقرار في سوريا.

لم تنقلب الولايات المتحدة إثر اندلاع الثورة في الداخل السوري قبل عشر سنوات عن أي ثوابت في سياساتها السورية هذه. سمعت قيادات المعارضة في بدايات حراكها من السفير الأميركي في دمشق آنذاك، روبرت فورد، أن بلاده لا تدعم إسقاط النظام السوري. نصح الرجل المعارضة بالبناء على هذا الثابت الأميركي محذّرا من أي قراءة خاطئة للمواقف الأميركية في شأن التطورات في سوريا. وكان هذا السفير قد قام برفقة نظيره الفرنسي في يوليو 2011 بزيارة دعم إلى المتظاهرين في مدينة حمص، فهمت المعارضة منها تحولا أميركيا أوروبيا يمكن للمعارضة الذهاب بعيدا في التعويل عليه.

منذ باراك أوباما وحتى جو بايدن مرورا بدونالد ترامب بقيت السياسة الأميركية تجاه سوريا في وضع ركيك لا يمكن لدول العالم كما للدول الداعمة للنظام في سوريا التأسيس عليه. تقوم تلك السياسة على باقة من المواقف المبدئية المعارضة للنظام في دمشق دون أن تدفع هذه المواقف إلى تحولات لافتة بشأن المسألة السورية برمتها. انسحبت إدارة أوباما في هذا الملف لصالح الخيار الروسي. احترمت إدارة ترامب هذا الخيار (رغم انقلابها على خيارات أوباما الأخرى) وأثنت عليه. لا بل أن ترامب نفسه أبدى ضيقا من بقاء قوات أميركية في سوريا وأعلن مرارا انسحابها الكامل من هذا البلد قبل أن تثنيه حسابات البنتاغون عن الأمر. فيما يشوب إدارة بايدن هذه الأيام تخبط وتردد وتلعثم يربك كافة الفاعلين الدوليين والإقليمين والمحليين.

من أعلن عن مشروع لاستجرار الغاز والكهرباء من مصر والأردن إلى لبنان عبر الأراضي السورية هي السفيرة الأميركية في بيروت دوروثي شيا. وقد تكون دمشق هي أول من تفاجأ من الإعلان وصاحبته، كونه يعني آليا إقرارا أميركيا بتخفيف قبضة "قانون قيصر" من جهة، وغضّ الطرف عن تواصل حكومي بين الدول العربية الثلاث المعنية بهذا المشروع مع دمشق من جهة أخرى. كما أن الانفتاح الذي أعلنه العاهل الأردني الملك عبد الثاني على سوريا، وما استتبع ذلك من فتح للحدود البرية وتبادل للزيارات بين الوفود وتواصل زعيمي البلدين، أتى على خلفية زيارة قام بها ملك الأردن إلى واشنطن في يوليو ومفاتحة الرئيس بايدن في أمر مبادرته السورية.

ومع ذلك فإن الموقف الأميركي من مبادرات التطبيع العربي مع دمشق، (وجديدها الخطوات التي قامت بها الإمارات في هذا الصدد، كما الجلبة المتعلقة بالدعوة لإعادة سوريا إلى الجامعة العربية التي أوحت بها تحركات في مصر والجزائر)، جاء ليجر ماء إلى طواحين الغموض في سياسة واشنطن حيال الملف السوري.

والظاهر أن الدول المعنية بالشأن السوري استنتجت عجز الإدارات الأميركية عن الخروج بموقف تجاه سوريا يكون منعزلاً عن أجنداتها في العراق وملفاتها العالقة مع إيران وصراعها الاستراتيجي مع روسيا وخصوصا مع الصين. والظاهر أيضا أن الدول المعنية جميعها (العرب وإيران وتركيا وروسيا وإسرائيل) باتت تعتبر أن سوريا ما زالت بندا متأخرا في سلم الأولويات الأميركي، بما يدفع كل اللاعبين للتحرك والمناورة والتموضع والسعي لتثبيت أمر واقع قديم أو جديد وفق ذلك الستاتيكو الذي قلما تبدل في سياسة واشنطن إزاء سوريا.

ولئن يبقى ملف سوريا في واشنطن فرعاً من كثير من الأصول الاستراتيجية الكبرى، فإن الولايات المتحدة ما زالت تقاربه من زاوية علاقته بأمن إسرائيل أولا (وهو أمر تتقاطع به مع موسكو)، بما يجعل من الانخراط الأميركي في الشأن السوري محدودا وله غايات تتجاوز الملف السوري بعينه. لواشنطن موقف معاد للنظام في سوريا دون أي ودّ لافت للمعارضة، وهي إن تدعم الحلفاء الأكراد في شمال شرق سوريا، فإنها تشجعهم على اعتماد الخيار الروسي، وهي إن تشجع على تفعيل خط الغاز العربي عبر سوريا، فإنها في تقارب العرب مع دمشق تذكّر بتحفظاتها القديمة لكنها لا تجد في الأمر انقلابا يستدعي المعاندة الكبرى.