سريعاً ايضاً، ستتراجع الأصوات المحتجة العالية للقوى المعترضة على نتائج الانتخابات بعد أن استنفدت كل خياراتها القانونية في الاعتراض، إلا إذا قررت اتباع طرق أخرى، خارج القانون، بالتهديد بالسلاح أو صناعة الفوضى في الشارع. حينها سيكون هذا انتحاراً سياسياً سيضاعف خسارة هذه القوى، وإن يكن مستبعداً أن تسلك هذا الطريق الخطر عليها.

السؤال الأهم الذي تثيره نتيجة هذه الانتخابات هو ترجمتها السياسية في الواقع. إنه السؤال المتعلق بتشكيل حكومة أغلبية سياسية. ان حصل هذا الأمر فسيكون ثاني أهم تطور مؤسساتي في السياسة في عراق ما بعد ٢٠٠٣ نحو بناء نظام ديموقراطي حقيقي. التطور الأهم الأول كان تشريع قانون الانتخابات الحالي في نهاية عام ٢٠٢٠، وهو القانون الذي كانت احتجاجات تشرين السبب الرئيسي وراء تشريعه، (ولسوء الحظ لا يدرك، لحد الآن، الكثيرُ من المحتجين أهمية انجازهم هذا). قوض هذا القانون، بمجموعة الإصلاحات المهمة التي احتواها بخصوص إجراء انتخابات رصينة ونزيهة، احتكارَ النخبة الحزبية السياسية الحاكمة للسلطة الذي ترسخ عبر القانون الانتخابي السابق المنحاز لاحزاب هذه النخبة والمُشوِّه للإرادة الشعبية. إذا استمر القانون الحالي، حتى مع بعض عيوبه، من دون إدخال تعديلات جوهرية عليه تُضعفه عبر البرلمان المقبل، فأنه، وعلى المديين المتوسط والبعيد، سيغير وجه السياسة في البلد في حال استثمار المجتمع فيه أكثر عبر المشاركة الانتخابية الواسعة والتنظيم السياسي الجيد لخوض الانتخابات. ينبغي لقوى الاحتجاج أن تدافع عن هذا القانون وتضغط لادخال تعديلات عليه تسد نواقصه الحالية. تأريخياً، كانت القوانين الانتخابية وتعديلها لتصبح أكثر تمثيلاً للمجتمع وتنوعه هي الحافز الأهم في تطور الديموقراطيات الراسخة في الغرب.

حكومة الاغلبية السياسية، إن نُفذت بشكل جدي وليس تجميلياً، فيمكن أن تكون التطور الأهم الثاني في قصة عراق ما بعد ٢٠٠٣. فعلاوة على تحمل المسؤولية عن الأخطاء وحصد ثمار النجاح، والسماح ببروز معارضة برلمانية تساهم معارضتها في تحسين الأداء الحكومي عبر الرقابة والتصويب والتنافس السياسي، ستؤدي حكومة الاغلبية الى نضج سياسي لدى الجمهور بخصوص معنى السياسة ومناهجها وتطبيقاتها المختلفة. يرتبط مثل هذا النضج، المفقود شعبياً الآن، بتطوير الجمهور القدرةَ على الفهم والتمييز بين برامج وسياسات وتوجهات مختلفة في إطار أساليب حكم ومعارضة متنافسة، بعيداً عن التعميمات الاخلاقية الاشكالية السائدة حالياً في فهم الجمهور التي تضع الساسة والأحزاب والسياسة كلها في خانة سيئة واحدة، وذلك في إطار غضب عام عادةً ما يؤدي إلى بروز خطابات ونزعات شعبوية حادة تقدم حلولاً مزيفة وغير قابلة للتطبيق لمشاكل البلد الكثيرة.

لا يكمن التحدي هنا في تشكيل حكومة أغلبية فقط، بل في أن تكون حكومة أغلبية حقيقية ببرنامج إصلاحي جاد. يعني هذا أمرين مترابطين. الأول هو تحرير الوزارات ومؤسسات الدولة الاخرى من التعيينات الحزبية في المواقع المؤثرة التي تراكمت فيها منذ ٢٠٠٥ وتولي تكنوقراط متخصصين هذه المواقع، مع بقاء المناصب القيادية غير التكنوقراطية بيد ساسة حزبيين من ائتلاف الاغلبية الحاكم. الثاني هو وجود برنامج إصلاحي جدي وموحد يُطبق عبر مؤسسات الدولة يتفق عليه الائتلاف الحاكم وينفذه القياديون الحزبيون في هذه المؤسسات في ويشرف عليه رئيس الوزراء. تتلخص أهداف هذا البرنامج بمكافحة الفساد واستعادة كفاءة وتحديث مؤسسات الدولة التي تدهورت كثيراً على مدى الثلاثين عاماً الماضية، كي تستطيع تقديم الخدمات المطلوبة منها للمجتمع.

في حال القيام بهذين الأمرين المترابطين، ستساهم حكومة الاغلبية بتقليل الفجوة الهائلة الحالية بين المجتمع والطبقة السياسية وتمنع انفجار موجة احتجاجات جديدة. بإمكان المجتمع في العراق أن يصبر بضع سنوات اخرى حتى ينجح الإصلاح إذا كانت هناك جهود جدية منذ البداية بهذا الاتجاه يمكن للمجتمع تلمسها والإحساس بها. بخلاف هذا، أي بوجود حكومة اغلبية سياسية، لكنها عاجزة فعلاً عن صناعة تغيير إيجابي في مجرى السياسة والأداء الحكومي وواقع الخدمات، فإن البلد ذاهب الى جولة جديدة من المواجهات الساخنة بين المجتمع والطبقة السياسية سيكون الخاسر الأكبر فيها هو التيار الصدري، صاحب فكرة الاغلبية السياسية. في الحقيقة، سيكون من الأفضل كثيراً لمستقبل التيار الصدري أن يختار المعارضة البرلمانية والسياسية على أن يقود حكومة اغلبية سياسية فاشلة.

الجانب الأضعف في امكانية تشكيل حكومة أغلبية سياسية هو أنها مرتبطة برغبة حركة سياسية واحدة هي التيار الصدري ومعارضة الحركات السياسية الآخرى. باستثناء الصدريين، تفضل كلُ الطبقة السياسية العراقية، في طيفها المكوناتي، شيعةً وسنةً وكرداً، حكومةً توافقية تحت العنوان المخادع المعتاد : حكومة وحدة وطنية. سينهار كاملُ مشروع الاغلبية السياسية الحاكمة إذا غيَّر التيارُ الصدري رأيَه بشأنه، سواءٌ بسبب الضغوط التي يتعرض لها أو بسبب العجز عن تشكيل حكومة ألاغلبية هذه في حال إصرار الأكراد والسنة على حكومة توافقية.

إعادة إنتاج حكومة توافقية جديدة هي عبارة عن وضع خل قديم في قنان جديدة، وبالتالي تكرار الفشل الحالي وزيادته. يعني هذا أن الطبقة السياسية العراقية لم تتعلم شيئاً من دروس العامين الماضيين القاسية والصعبة وانها ذاهبة نحو مواجهة أشد قسوة وصعوبة ضد المجتمع ستكون هي الخاسرة الأولى فيها.