الصورة التي استعملها المرشح، وهو لص انتخابي ظريف، كانت دالّة على أنه يبحث عن نموذج يعزز حظوظه الانتخابية. لم يجد ذلك النموذجُ في بلاده فاضطر إلى استعارته من بلد آخر تحولت تجربته الاقتصادية والتنموية إلى مادة حاثة على الاستلهام.

فكرة البحث عن نموذج خارجي تحيل إلى طرح مقارنة مضمرة بين أوضاع العراق وأوضاع السعودية في الوقت الراهن، ويمكن توسيع المقارنة إلى أكثر من قطر وجغرافيا.

تزداد المقارنة خطورة وتكتسب المزيد من الدلالات حين تسألُ أي شاب عراقي أو جزائري أو ليبي، عن الأقطار العربية التي يحلمُ بالهجرة إليها، وستلحظ أن الإجابات ستتضمنُ حتما مدن أبوظبي ودبي والرياض وجدة والجبيل، وستلتحقُ نيوم قريبا بقائمة مدن الأحلام العربية.

ولعل دراسة للشباب العربي في 17 بلداً عربياً لصالح أصداء بي سي دبليو والتي تقول أن الإمارات هي البلد المفضل للعيش لـ47 بالمئة من الشباب العربي تعزز من أن بوصلة الحلم العربي هي الآن متجهة للخليج.

الشاب العربي الذي عاش في بلد نفطي يرقدُ على ثروات بلا عدّ يحقّ له أن يحلمُ بحياة مستقرة وبتكوين أسرة تعيش في مجتمع عادل وآمن ومستوعب لاختلافاته.

يجوز لذلك الشاب العربي أن يسأل عن الأعطاب التي حالت دون تحويل ثروات بلاده الطبيعية إلى مشاريع تنمية تستهدفُ الإنسان ولا تخدم الأنظمة، وما يزيد في وجع الأسئلة أنه يرى أقطارا عربية شقت طريق التنمية باقتدار وعرفت كيف توظف ثرواتها لخدمة الإنسان، ومن ثم تحولت إلى اختصار لأحلام الشباب العربي.

أن تتحول السعودية أو الإمارات إلى نموذجين يتطلع المواطن العربي إلى تقليدهما والوصول إلى ما وصلتا إليه، هو أمر يدخلنا في خضم تساؤلات مهمة حول النموذج العربي الناجع، وكيف أن بلاداً لطالما تفرغت نخبة النخبة فيها إلى السخرية مما يسمونه بلاد الصحاري ومدن الملح وعجلات العودة الى الخلف، وقوافل الرجعيين السائرة بين رياح السموم المتطلعة إلى أخفاف إبلها، والراسمة محور العالم حول أطناب خيامها.

كيف لهذه البلاد أن تصبح النموذج الناجح وأن تضع المصنع بجوار الخيمة، وترعى إبلها بين طرق أفضل مما في بلاد العم سام، ويتناول شبابها وشاباتها مخططات الوصول الى المريخ في وقت تبحث فيه نخبة النخبة الثورية- قومية كانت أو إسلاموية- عن شمعة وسط عتمة العبث بمقدراتها وحرمانها من حقها في التعليم والصحة والكهرباء المستمرة والماء النظيف والحياة الآمنة.

وأن تتحول مدن عربية خليجية من "بلاد الصحاري ومدن الملح" وفق توصيفات النخب اليسارية والإسلاموية، إلى حلم يعتملُ داخل الشباب العربي وحتى عند رواد النخب الوفية لكراريسها النظرية، ونموذج يثير الشجون والغبن والمقارنات، فهذا يعني أن تلك التوصيفات تفتقد الوجاهة والمنطق، بل إنها (أي تلك التوصيفات) أضافت سببا آخر لتخلف بعض الأقطار العربية النفطية.

ثمة فكرة سادت طويلا في الأوساط الفكرية والسياسية، العربية خاصة، مفادها أن النفط وحده يقف وراء نهضة "البلدان النفطية".

هذه الفكرة وبقدر ما تحمل من تعميم فإنها قابلة للدحض بمجرد استحضار "تجارب مقارنة" أخرى تكذّب تلك الفكرة وتُثبت بطلانها.

أقطار عربية كثيرة انطلقت من مقدمات متشابهة، وعرفت الطفرة النفطية الأولى (1969 إلى 1980) حيث ارتفعت المداخيل النفطية في السعودية والإمارات والجزائر وليبيا والعراق وغيرها، لكن تشابه المقدمات لم يؤدّ إلى نفس النتائج. المقدمات تفيدُ بأن دولا عربية كثيرة، حباها الله بثروة طبيعية تسمح لها- إن أحكمَ استعمالها- بأن تحلق في مصاف الدول المتقدمة، والنتائج تقول إن دولا عربية نظرت إلى النفط بوصفه أداة لخلق ثروة يمكن أن تستعيض بها عن النفط نفسه، والنتائج تقول أيضا إن دولا عربية أخرى حولت النفط إلى أداة في خدمة مشاريع طوباوية وأفكار استعلاء وبناء الجيوش التي تقاتل شعوبها والتدخل في شؤون الآخرين.

على ذلك يمكن الإقرار، بثقة وهدوء، بأن نهضة الدول العربية الخليجية لا يقف وراءها النفط وحده. صحيح أنه كان منطلقا مهما، لكن ثمة عوامل تاريخية وموضوعية وسياسية متضافرة عززته ومهدت سبل حسن استخدامه.

المجتمع الخليجي عموما، كان يتطور ببطء وتؤدة، بالتوازي مع تطور مؤسساته السياسية والاقتصادية، ولم يعرف أي قطيعة سياسية أو اجتماعية ناتجة عن حدث مسقط أو فجائي، من نوع الانقلابات التي كانت تتواتر في المنطقة، والتي كانت تفرض إحلال طبقة محل طبقة ونظام مكان نظام آخر.

التطور الاجتماعي الهادئ كان بمثابة اعتمال ومراكمة تجارب، على ذلك احتاج الخليج عقودا لكي يتحرر من الأفكار التقليدية الراسخة في المجتمع، ولكن السلطة فضلت أن لا تقطع معها بالقوة أو بالقوانين المسقطة التي يمكن أن تخلع قشرة تلك الأفكار دون إزالة عمقها ورواسبها.

في السنوات الأخيرة ازدادت الهوة توسعا بين دول استعملت عوائد النفط لخدمة الناس، وأخرى استعملتها لغايات سياسية وعسكرية ولمشاريع أيديولوجية ولطوباويات من نوع إلقاء إسرائيل في البحر. وعندما نقرأ أن دول الخليج شرعت في التفكير في رؤى اقتصادية طموحة تقوم أساسا على التفكير في سؤال ما بعد النفط، فإننا نتوصل إلى أن الفرق بين النمطين من الدول لم يكن في حجم الإنتاج أو في سعر برميل النفط، بل كان في وجود الحوكمة الرشيدة من عدمها. كيف تصرفت الأولى في عوائد سخية يدرها النفط، وكيف استعملته الأخرى؟ هنا يبدو الفرق ماثلا في المنجز الحضاري والاقتصادي والسياسي والعلمي.

تطور سياسي واقتصادي واجتماعي متوازي، أخذ بالاعتبار أن النفط يجب أن يكون في خدمة البلاد لا في خدمة السلطة أو النظام، ولذلك ذهبت عوائد النفط رأسا إلى عناوينها الصحيحة أي إلى التنمية، ولذلك أيضا جاز للدول الخليجية، التي أثبتت تماسكها وتمسكها بمشروع الدولة، أن تطرحَ رؤى طموحة تفكر من خلالها في مرحلة ما بعد النفط. وهنا بيت القصيد ومكمن الاختلاف؛ دول وجهت ثرواتها بفضل الحوكمة الرشيدة نحو ثروات أخرى، وفكرت مبكرا فيما بعد النفط، ودول أخرى حرصت على أن تظل أسيرة عصر النفط، وواظبت على توجيه عوائده نحو المشاريع الاستعراضية أو العنتريات، واشترت صمت شعوبها بترضيات زهيدة، فكان أن خسرت رهاناتها الطوباوية وبددت فرص التنمية.

توصل الخطاب السياسي الحديث إلى أن الدولة الحديثة أصبحت تسير بعقلية الشركات، وأصبحت تعلي من قيم النجاعة بدل السرديات الكبرى التي أفلت وانتهت صلوحيتها، وأصبحت الحكومات تُقيّم بما تحققه من أرقام لا بالشعارات التي ترفعها أو بجمال خطب رؤسائها أو بما تطرحه من رهانات لا صلة لها بهموم الناس. تحول عالم اليوم إلى أروقة مفتوحة على بعضها، وأصبح الشاب العربي يرنو بطموحه إلى أقرانه في الرياض وأبو ظبي ودبي وجده، كيف يتمتع هؤلاء بحكومة تخدمهم بينما هو يخدم حكومته ويطلب منه الانخراط في مشاريع "قبلية طائفية سياسية" لتلميع هذا الزعيم أو ذاك، ويرى بلاده مرتهنة لمشاريع خارجية لا علاقة لها بهمومه التنموية وطلبه لفرص عمل وجودة حياة تليق بطموحاته، لذلك لم يعد يأبه لتلك الشعارات التي خدرت الناس في السبعينات. ولذلك كله فإن القول بأن النفط صنع نهضة الدول الخليجية هو قول مناف للحقيقة والوقائع. نهضة الدول العربية الخليجية صنعها التقاء الإرادة السياسية مع الحكومة الرشيدة مع الأرضية الاجتماعية الملائمة. ولعل مقارنة أبوظبي ببغداد، أو الرياض بطرابلس، كافية لتبين الفرق بين الشعار الصاخب وبين الفعل الهادئ.