وتَرُدُّ مركزيّتُه في المنظومة اللّيبراليّة إلى نظرة هذه إلى الاجتماع المدنيّ بما هو اجتماعٌ مؤلَّف من أفراد مستقلّين أحرار، ومن حيث الفرد مؤسّسٌ له، بل من حيث إنّه اجتماعٌ لم يَقُم، أساساً، إلاّ من أجل حماية الأفراد ممّا يتهدّد أمنهم وحقوقهم في الحريّة والملكيّة. ونظيرَ هذه المكانة الرّئيس التي للفرد في المنظومة الفكريّة اللّيبراليّة أَحَلَّتْهُ الدّولةُ الحديثة محلّ القلب منها ومن منظومة قوانينها، ووضعتْ حقوقه المدنيّة والسّياسيّة في صدر تكاليف وَلايتها.

 حقوق الفرد طبيعيّة، في المقام الأوّل، عند مَن يُمَاهون بين الحقّ الطّبيعيّ والحقّ المدنيّ من اللّيبراليّين: فلاسفةً واقتصاديّين (جون لوك، سپينوزا، روسو، كنْت، آدم سميث، جون ستيوارت مِلْ...). وطبيعيّتُها هي ما يقود إلى وجوب إحاطتها بضمانات الحماية من طريق تصييرها مدنيّة؛ أي مكفولة من قبل الدّولة. وليس الأمنُ وحده ما على الدّولة أن تكفله - كما يعتقد ذلك هوبس ويبرّر به الحاجة إليها - وإنّما الأحرى بأن تكفله هما: الحريّة والملْكيّة بوصفها أظهر تلك الحقوق التي قد تكون مهدّدة. وعليه، ليس من وظيفة أخرى للدّولة، في المقالة اللّيبراليّة، غير حماية تلك الحقوق وإحاطتها بضمانات الرّعاية.

حتّى تصوُّر اللّيبراليّة للدّولة والمجتمع لم يكن لينفصل عن نظرتها إلى الفرد بحسبانه الرُّكن الرّكين في الاجتماع. هذه فلسفةُ العَقد الاجتماعيّ، مثلاً، تفترض الأفرادَ صُنّاعاً للدّولة. ألم تَقُم على فرضيّةٍ مفادُها أنّ الانتقال من حالة الطّبيعة إلى المجتمع السّياسيّ (= الدّولة) تحقّق بالتّوافق بين أفراد مجتمعٍ تواضعوا في ما بينهم على عَقْدٍ تقوم به الدّولة، وتَبْسُط به سلطانها على الجميع، وتضمن به حقوقهم التي منحتْها إيّاهم الطّبيعة؟ إذن، يتعلّق الأمر- في هذه السّرديّة الفلسفيّة اللّيبراليّة - بوجودٍ للأفراد سابقٍ لوجود الدّولة. هذه واحدة؛ الثّانيّة أنّ الأمر يتعلّق فيها بتصوُّرٍ للأفراد أولاء كأحرارٍ ذوي إرادة وقادرين على التّوافُق والتّنازل المتبادَل لتكوينِ مجال عامّ وسلطة. وهو نسْجٌ ذهنيّ افتراضيّ ورومانسيّ ليس في تاريخ المجتمع والدّولة ما يشهد له، وليس من وظيفةٍ له سوى تظهير مكانة الفرد ومركزيّته.

تتّصل هواجس اللّيبراليّة بحقوق الأفراد وحريّاتهم بجوهر إيديولوجيّتها: تقديس الملكيّة الخاصّة، أي تحويلها إلى مقدّسٍ سياسيّ تحميه الدّولة وقوانينُها، وتَخْلع عليه المشروعيّة، بل تُحوِّلُه إلى مبرِّرٍ لوجودها وإلى مهمّة رئيسة في نظام وظائفها. إقامةُ نظامٍ اجتماعيّ- اقتصاديّ على التّملك Appropriation الخاصّ يقتضي، حكماً، الفرد/ الأفراد كعضوٍ في المجتمع يحتاز حقوقه كاملةً، وأوّلها حريّة التّملّك. لا يمكن الدّفاع عن الملكيّة الخاصّة من دون الدّفاع عن الفرد؛ عن حقّه فيها؛ عن واجب الدّولة في حماية ذلك الحقّ والتّمكين له حتّى يحتاز صاحبُه أسباب المبادرة الخاصّة التي بها - حسب المقالة اللّيبراليّة - تَعْظُم المنافع وتتكاثر الخيْرات في المجتمع كلّه. هذه هي الخلفيّة العميقة التي عليها  مبْنى خطاب اللّيبراليّة حول الفرد.

ما يتمتّع به الفرد من مكانةٍ اعتباريّة - بل من حُرْمٍ- في المنظومة الفكريّة والإيديولوجيّة اللّيبراليّة، هو عينُه ما يتمتّع به الرّأسمال والملْكيّة الخاصّة في النّظام الرّأسماليّ بما هو نظامُ اللّيبراليّة الأمثل. لا عجب إنْ كانتِ المقالةُ اللّيبراليّة قد تغلّبت على غيرها من المقالات في الدّولة الحديثة، واسْتوى عمرانُ الأخيرة على أواليات الأولى؛ ذلك أنّ قاعدتَها الأساس (= الرّأسماليّة) تغلّبت، في الدّولة الحديثة، على غيرها من العلاقات الإنتاجيّة السّابقة، وفرضت نفسَها على الدّولة وقوانينها وتشريعاتها. وهكذا انتهت الأمور إلى حيث صارتِ الدّولةُ دولتَها (= أعني اللّيبراليّة) نظيرَ ما صارت، في الوقت عينِه، دولةَ الرّأسمال وقواهُ الاجتماعيّة. أمّا ما لا تَجْهر به اللّيبراليّة، في دفاعها العنيد عن الفرد، فهو أنّها تنتصر -عمليّاً - لفردٍ على فردٍ؛ للمالك على المحروم من التّملُّك. حين تنزل بالمقالة اللّيبراليّة من عموميّاتها الفلسفيّة والسّياسيّة- القانونيّة إلى الاجتماعيّ، نكتشف إلى أيّ حدٍّ ينطوي خطابُها عن الفرد على إجحافٍ اجتماعيّ بيّن... وتلك مسألةٌ أخرى.

ما من شكٍّ في أنّ فَرْدَ اللّيبراليّة فرْدٌ من نوعٍ خاصّ؛ إنّه مواطن في المقام الأوّل. والمُواطِن ثمرةُ علاقةٍ تُقيمها الدّولة بالأفراد المنتمين إليها، ومقتضاها أنّ لهؤلاء حقوقاً مدنيّة وسياسيّةً مكفولة (من الدّولة) لقاء ما يقدّمونه له من واجبات ليس دفْع الضّرائب إلاّ أدناها، وهي تتدرّج في التّضحيّة صعوداً إلى أداء الضّريبة الأعظم: ضريبة الدّم؛ دفاعاً عن الدّولة وسيادتها واستقلالها. غير أنّ النّظر في تضاعيف مفهوم المواطن/ الفرد في الخطاب اللّيبراليّ يُطلعنا على حقيقة ما يعتور معناه من عَوَارٍ ونقص؛ إذِ الحقوق التي تَلْحظها الدّولة (اللّيبراليّة) لمواطنيها حقوقٌ سياسيّة وليست اجتماعيّة. بل هي لم تَكد تستدخل ما هو اجتماعيٌّ فيها إلاّ بعد تعدّلتْ بنيتُها، بعد الحرب العالميّة الثّانيّة، فباتت دولةً للرّعاية الاجتماعيّة متدخّلةً في الميدان الاجتماعيّ، قبل أن تعيد اللّيبراليّة المتوحّشة الانقضاض عليها في ثمانينيّات القرن العشرين!