بالقُرب من ظلال ما بقي من أنقاض أقواس كنيسة الطاهرة السريانية الكاثوليكية وحيطانها في الأحياء القديمة في مركز مدينة الموصل، التي دمرها تنظيم داعش الإرهابي الذي احتل المدينة طوال أربعة أعوام (2014-2017)، كان مئات النساء والرجال والأطفال يرقبون بحسرة البابا فرانسيس وهو يغادر المكان.
غادر البابا بعد أن ألقى عظته الرسولية، داعياً إلى نبذ العُنف ونبذ قيم الكراهية، مذكراً بآثار تناقص أعداد المسيحيين في كامل المشرق، وبالذات في العراق: "هذا التناقص المأساوي في أعداد تلاميذ المسيح، هنا وفي جميع أنحاء الشرق الأوسط إنما هو ضرر جسيم لا يمكن تقديره.. ليس فقط للأشخاص والجماعات المعنية، بل للمجتمع نفسه الذي تركوه وراءهم". كانت مشاعر هؤلاء الرعايا تقول في خلجاتهم: كل شيء كان عظيماً ووجدانياً خلال زيارة البابا، لكن ماذا بعد!، نحن لسنا مطمئنين لمستقبلنا هنا.
يعرف مسيحيو العراق أكثر من غيرهم وقائع أحوالهم، هُم الذين ذاقوا مرارة ما يحيط بهم من صراعات، وإن لم يكونوا جزءا منها قط. لكن طبيعة هويتهم الثقافية وتوزعهم "المُتفتت" على مختلف مناطق البلاد ومستويات التعليم العالية في أوساطهم وكونهم الجماعة الأهلية العراقية الوحيدة التي لا تحظى بأي دعم إقليمي أو دولي، تحولهم فعلياً لأن يكون ضحايا مثاليين لكل أشكال القلق السياسي والأمني المحيطة بالعراق وداخله.
تتمركز مشكلة المسيحيين الرئيسية في العراق حول فكرة الدولة وهويتها ودورها. فالدولة بمواثيقها والتزاماتها ومؤسساتها الخدمية والأمنية المُجردة التي لا تُمايز بين مواطنيها، أياً كانت انتماءاتهم، وحدها القادرة على تقديم تلك الطمأنينة والاستقرار للمسيحيين العراقيين.
وبوضوح تام، فإن ثمة مستويين من الدولة العراقية الراهنة: ثمة الدولة الظاهرة، المؤلفة من الحكومة والمؤسسات الحكومية الخدمية، حيث لا تتجاوز سلطات هذا الحيز من الدولة إلا بعض التفاصيل الخدمية، الغارقة تماماً في كل أشكال الفساد. أما المستوى الآخر فيتمثل في الدولة/النواة، المؤلفة من الفصائل والقوى السياسية الدينية الطائفية المركزية، هذه النواة التي تُحدد خيارات العراق وتوجهاته الاستراتيجية، ولسوء حظ المسيحيين فإنها نواة ذات نزعة عسكرية ميليشيوية، تنزاح لأن تُدخل الجماعات والقوى السياسية العراقية في موجات متتالية من الصراعات البينية، حتى تحافظ على مستويات سيطرتها على المجال الداخلي.
مشكلة المسيحيين الثانية تكمن في غياب المجال الداخلي العراقي. فالعراق كان طوال عقدين كاملين، وما يزال، ملعباً مفتوحاً رحباً للصراعات الإقليمية والدولية، بالذات من حيث كونه منطقة نفوذ إيرانية. فإيران داخلة في شبكة تداخلات وصراعات مع كل العالم تقريباً، الولايات المتحدة والدول العربية والقوى الإقليمية وحتى دول المنظومة الأوربية، وفي كل هذه الشبكة، لا تريد إيران لتلك الصراعات أن تؤثر على داخلها، فتعتبر العراق مساحة مناسبة لضبط صراعاتها تلك.
هذا الاعتبار الجوهري، يدفع الحكومة والنُخب العليا والقوى السياسية العراقية لأن تُصبح خارجية تماماً، وأن تتجاوز أو تُجرب أن تتجاوز مُعضلات داخلية شديدة الحساسية، مثل مأساة المسيحيين العراقيين، الذين يتناقصون حد الاضمحلال. لكن مستوى خارجية الحياة العامة في العراق، يدفع بالاهتمام بمثل تلك المأساة إلى أن يكون مُجرد ترف.
إلى جانب الأمرين السابقين، طبائع الدولة العراقية وخارجيتها، فإن مسيحيي العراق هُم الضحايا الموضوعيون لصعود شبكة من الديناميكيات المجتمعية، مثل الشعبوية والصراعات الطائفية والتراجع الاقتصادي وتنامي ثقافة الرعاية الاقتصادية، تلك التفاصيل التي لا تجد لنفسها أي أفق أو حلول نهائية ناجزة، حيث تؤثر بمجموعها على تدهور مستويات الحياة العامة في العراق، وتالياً تُشجع على تنامي الرغبة في الهجرة، إذ إن المسيحيين أول المسارعين إليها.
يعرف المسيحيون العراقيون، أو ما بقي منهم، بأن للبابا مكانة روحية وثقافية كُبرى، قادرة على المبادرة والطرح والحوار، لكنها مع كل سماتها تلك، لا تستطيع أن تُقدم شروطاً ومناخات تمنح مسيحيي العراق مظلة طمأنينة شاملة، تسمح لهم بالحفاظ على استقرارهم وتنمية أشكال حياتهم.
يعرف المسيحيون ذلك، لأن دولا ومشاريع كبرى – مثل ما حاولت الولايات المُتحدة والقوى الدولية الشريكة لها أن تفعله - فشلت في تنفيذ شيء من ذلك. لأسباب تبدو أكثر تركيباً وصعوبة من الأماني، أسباب تتعلق بهويات المجتمعات العراقية وذاكرتها، إلى جانب الموقع الجغرافي للعراق ككيان بين الدول التاريخية المحيطة به الطامحة للسيطرة عليه، ومع ذلك كله، نوعية اقتصاده النفطي وتنوعه القومي والديني والطائفي، إذ أن كل تفصيل من ذلك يقول بأن العراق عصي على التغيير والاستقرار أكثر من غيره، وبمستويات غير قليلة.