ماذا يعني الإفراط في إدمان اللحوم؟

الإفراط في إدمان اللحوم يعني ضرباً من احتراف امتصاص الدماء، لأن ما هو اللحم إن لم يكن استقطاعاً من جسد كائن حيّ؟ وما هو جسد الكائن الحيّ إن لم يكن يبيساً ملفّقاً من نزيف دم؟ وما هو التلذّذ بالتقام اللحم، المسمّى في واقعنا البشري قرماً، إن لم يكن استمتاعاً بتجرّع الدمّ، كل ما هنالك أنه في صيغة تخثّرٍ قصوى، مدعوّة في لغتنا المتداولة، يبوسةً؟ ألن يكون إدمان اللحم، على هذا النحو، نوعاً من تنصّلٍ من روح الإناسة، وقبولاً واعياً بالتّوحّش، الذي قد يُبيح إلتقام الإنسان للحم أخيه الإنسان، كما في بعض المجتمعات، لو لم تتدخّل الأخلاق لتسنّ، في حقّ هذا الحُمْق، تشريع التحريم؟

هذا هو التشريع الذي تمرّد عليه بطل "النزيف" في السيرة، واحترفه رمزياً في علاقته بالضحية "أسوف"، وإلاّ لما اعتنق هوية "قابيل" الذي لم يتردد في إماتة شقيقه "هابيل"، لتكون هذه الجريمة أول حرفٍ في أبجدية أكل لحوم البشر، في حال اعتمدنا تأويلها رمزياً.

وطبيعي، لهذا السبب أيضاً، أن يتعفّف هابيل الواقع الصحراوي (أسوف) ويصوم عن تناول لحم أخيه (سواء أكان إنساناً أم ودّاناً)، بالمقارنة مع أخيه قابيل الواقع العمراني، المتعطّش دوماً للإرتواء من ينبوع دمٍ هو، حتى في فقه اللغة، جسدٌ سائلٌ، بقدر ما الجسد دمٌ يابس.

ولكن.. كيف تآلفت الحجج لتنسج حبكة السيرة؟

الفضل يرجع للعزيز صلاح فضل الذي حرّضني منذ ربع قرن على الجود بالسيرة، التي كانت الحجّة في إبداع كل سيرةٍ روائيةٍ، بعد أن ألهمني، بوصاياه النفيسة، إنجاز عملين ملحميين حجماً وفحوى هما: "سداسية الأخلاف والأسلاف"، ورباعية "عدوس السرى"، كما يليق بروح المفكّر، الجدير حقاً بأن يكون الوصيّ على الأدب. وأذكر كيف حرّضني على الإقلاع عن إدمان أفيون الأسطرة، فلم أجد ما أكافِئُه به سوى إهدائي له رواية "لون اللعنة"، مشفوعةً بعبارة "إلى صلاح فضل: آملاً أن أكون قد بلّغت"، فإذا به يتصل بي أثناء وجودي في إحدى العواصم، معبّراً عن امتنانٍ مشفوع باحتجاجٍ يقول: "ولكنّك خدعتني يا إبراهيم!"، فأدركتُ فوراً أنني خذلته في ذاك العمل أيضاً، لأنني لم أستطع أن أقاوم الإغواء، فأمنع الصحراء من أن تعبّر عن طبيعتها، فإذا بها تجبرني على وصف موقفٍ تمخّضت فيه الجبال لتلد جيوش الفرسان الذين هبّوا لنصرة أبطال الصحراء في معركتهم لصدّ الغُزاة؛ وهو ما ارتآه "فضل" إخلالاً بميثاقنا الضمني في شأن الموقف من الأسطورة، التي لم تكن دين الصحراء وحسب، ولكنها ظلّت واقع الصحراء أيضاً؛ فلم أجد ما أجيب به سوى أني وجدت نفسي أمام خيارين: إمّا أن أخدع نفسي، فأخدع الصحراء التي أنابتني عنها لترجمة كلمتها، في حال الإستجابة لنداء الصديق، أم أن أخدع صديقاً شِيمتُه الغفران، فأُنصف صحراء لا وجود في ناموسها لغفران، وكان من الطبيعي أن أستجير بالخيار الأخير!

فالمسألة مع الأسطرة ليست أمراً يمكن أن يخضع لمزاج علاقة حتى لو كانت صداقة، أو تلبيةً لنداء دعابة؛ لأن الأسطرة مفهومٌ مفروضٌ بحرف الواقع البيئيّ، المحكوم مسبقاً بنزعة ميثولوجية، كما الحال مع واقع صحراوي، الأسطورة فيه رأسمال، بل وبطل أبطال. فليس المكان وحده ما يلعب دور المرشد الميثولوجي في واقعٍ هو صحراء؛ ولكن الزمان، في هذا الواقع، أيضاً مسكونٌ بالبُعد الميثولوجي. ومبدأ الأسطرة هنا إفرازٌ طبيعي لهذه الهوية الوجودية المزدوجة، وليس خياراً قابلاً لمفاوضة، أو مقايضة.

فالأسطرة، في واقع مثقل بالروح الميثولوجية كالواقع الصحراوي، القرين لواقع التكوين في صيغته البكر، لن تكون وليد نزوة وجدانية، أو استجابة لشطحة خيال، ولكنها تنقلب قدراً مقرَّراً بقوانين الإبداع، التي حرّضت منذ أفلاطون وأرسطو على وجوب الإحتكام إلى حرم الأسطورة بالضرورة، لأن أسطرة الواقع ليس ترفاً، ولكنه غاية، لأن ما يستهوينا فيعجزنا التعبير عنه باللغة، لا ينجدنا في ترجمته سوى الأسطورة. ففي الأسطورة تُقيم الحُجّة، تُقيم الحقيقة.

تمّت معالجة التجربة الحرفيّة التي ألهَمَتْ ميلاد "التبر" في البيان المعَنوَن بـ"حرية الأبعاد القصوى"، المنشور في أحد أعداد هذا الموقع. وها هي "نزيف الحجر" تتطلّع لأن تروي حجّتها. فالحَجُّ إلى حرم فردوسي الضائع، في صحراء "مسّاك سطّفت"، تزامن في ذلك العام مع التعافي من مرضٍ عصيّ، لعب فيه مستنقع الواقع العمراني، المدعو في لغتنا حضارةً، دور البطولة، مما استدعى البحث عن ملاذٍ لاستكمال الإستشفاء، فلم أجد ترياقاً لنيل الخلاص سوى التشبّث بتلابيب وطن الله، الذي صار في حياتي التميمة الوحيدة، القادرة على امتصاص الآلام، الناجمة عن احتراف باطل الأباطيل لأمدٍ طويل وهي: الصحراء!

قام المريد، شقيقي الفقيد فنايت الكوني، بممارسة كافة التقنيات التقليدية التي تتطلّبها أيّ رحلة لنزول حرمٍ، إزداد الحلول في رحابه في الأعوام الأخيرة، استعصاءً، ربّما بسبب اغترابنا الطويل عن واقع هذه القارّة، الناجم عن استمراء النعيم المديني الناعم، ممّا يجعل الإقلاع عنه تحدّياً حقيقيّاً، لأنه طلبٌ لحرية.

كان موقع الإنطلاق وادي الآجال، ذلك المتحف الأثري الأسطوري، لأضرحة أممٍ خرافيّة، تعاقبت على مسافة مئات الكيلومترات، احتلّت حاضرة حضارة الجرمنت فيها المركز. الوجهة المقصودة، بالطبع، كنزٌ يقع خلف السلسلة الجبلية، الموسومة بسيماء ذلك الجمال، المسكون بإيحاء الأبديّة، الذي كان في هذه القارّة الفاتنة، لمسة خلود، اعتادت ذخيرة ما قبل التاريخ أن تحقن بها واقع هذه الطبيعة المتباهية بعريّ، هو في ناموسها، برهان تلك الحرية، التي تستنزل إحساساً بطمأنينة الحضور في واقع فردوس كان مفقوداً، ولكن معجزةً استحضرته من منافيه في البُعد المفقود، ليغدو منذ الآن فردوساً مستعاداً.

الإغواء بالحضور في واقع فردوس مستعاد هو ما قادني دوماً لتأدية فروض العودة إلى رحاب مسقط رأسٍ، لم أتردّد في أن أستنزل في حقّه لقب وطن الرؤى السماوية.

 وها هو خلّ الروح، والشقيق في الدمّ، والشريك الأبدي في عشق معبودة باسم الصحراء، فنايت الكوني، يرافقني مرة أخرى في حجٍّ جديد إلى معراجنا القديم.

المعراج القديم، ولكنه الجديد في كل مرة، بسبب ثراء في صحرائنا الكبرى بلا مثيل، لأن المكان الخالي من شروط المكان وحده يملك موهبة التجدّد، لأن الواقع البيئي الذي يرفض الإعتراف بالحضور في المكان وحده يملك الحق في أن يرفض الإعتراف بوجود الزمان أيضاً.

فلأنه بائدٌ، فهو دوماً خالد؛ لأن بصمة الفناء فيه تنقلب ميلاداً.

كالعادة، جلس خلف المقود، مرشدي الأبديّ إلى الصحراء، ودليلي إلى حقيقة هذا الوجود، فنايت الكوني، ليعبر بنا القنطرة المحتفرة حديثاً بأنياب آلات الحداثة الوحشية، لتستبيح حرمة السلسلة الجبلية الفاتنة، لتشقّها نصفين قبل أن نبلغ تخوم صحراء أخرى، تختلف في التضاريس الجغرافية عن صحراء وادي الآجال الرملية، لتستقبلنا رحاب "مساك سطفت" المصبوغة ببصمة كنزيف الدمّ، مغسولةً بشعاع شمس قانية، تتوضّأ بخضاب المغيب. لم نتوغّل في عمق هذه المفازة، الناطقة برطانات الأمم الفانية، التي تعاقبت في الهيمنة على هذه اليابسة المسكونة بصنوف الإغواء، الموحية بحضورٍ حميمٍ لهؤلاء، برغم امتناع الخطاب الحرفيّ في واقعٍ يُدمن الصمت لغةً.

قضينا ليلتنا في ضيافة إنسانٍ أوقفته إحدى الشركات النفطيّة ليكون حارساً على بعض المعدّات. في حضرته تحلّق صيادون أقبلوا من صحراء الشمال بعد أن جرّدوها من آخر حيوانٍ برّيٍ حيٍّ، وحلّوا في صحرائنا طلباً لذلك الحيوان  الأسطوري المنقرض، الذي قيل لهم أن بقاياه شوهدت، في الآونة الأخيرة، تتخفّى في كهوف هذه الأنحاء، ليقوم على حراستها شبحٌ يتنكّر في جرم أحد الرعاة. عن هذا الشبح ثرثروا طوال الليل بحثاً عن حيلة للإيقاع به كي يقودهم إلى مراعي بُغيتهم: الودّان!

أيقنتُ في تلك الليلة كم حرفة الصيد نوعٌ من إفيون، الإقلاع عنه أعسر من الإقلاع عن أيّ نوعٍ من أنواع الأفيون، وهو يصير أفيوناً مرّتين عندما يتعلّق الأمر باصطياد الطرائد النادرة. فالحيوانات النادرة، المهدّدة بالإنقراض تحديداً، تشكّل تحدّياً خاصّاً في حياة تلك الفئة من الصيادين الذين قادني الحظّ إلى واقعهم، لأسمع المَسّ في أصواتهم، قبل أن أقف عليه مترجماً في مسلكهم: كانوا يتهامسون بحثاً عن طريقة يجبرون بها الشبح الشقيّ على الكشف عن مراعي القطعان، بعد الشائعات التي تُروَى عن ممارسته لتضليل المغامرين مراراً عن مواقع الودان.

تلك الليلة تمخّضت عن ميلاد حبكة المغامرة التي صيغت في "نزيف الحجر"، وكان لها أن تكتمل في اليوم التالي عند قيامنا بزيارة أحد المواقع الأثرية الثريّة بلوحات فنّاني ما قبل التاريخ في أحد الوديان الخرافية المجاورة، حيث عثرتُ على تلك اللوحة الجريحة، التي أضحت ضحية أناسٍ أعماهم الحقد على واقع وطنٍ لم يستشعروا الإنتماء  إليه يوماً، فسدّدوا فوهات بنادقهم للتحفة المزبورة بنزيف روح إنسانٍ مسكونٍ بالحبّ، عاش قبل آلاف الأعوام، ليختطّ بأظافره وصيّته على الصلد، ليأتي لقيط في أحد الأيام، ليصيب بالطلقات النارية الحمقاء، رسالة هذا السلف، المجبول بالمسّ الإلهيّ، فيقتل في الأحفورة النادرة البلاغ، فينزف الحجر هَولاً من هذا التجديف، وتحتجب الشمس خجلاً ليحلّ في الصحراء كسوفٌ. وطبيعي أن يكون هذا الصلد الجريح سبباً في بعث الوصيّة من قبرها، لتكون حجّة في الحكم على الآثام المقترفة بمشيئة عقلية تعتنق المنطق الذي يرى في آثار الزمن الضائع مجرد شطحاتٍ وثنية، وليس لأجيال الخلف أن تعترف بها، وهي التي لم تعترف بانتمائها إلى تاريخ البيئة التي أنتجب هذه الثقافة، وفعلت كل ما بوسعها لكي تؤكّد القطيعة مع هذا الواقع الوجودي، الذي يروقها أن تستثمر ثرواته المادية، ولكنها ترفض الإعتراف بثرواته الروحيّة.

إنها الفتوى التي سادت طوال قرون، لتهيمن على واقع الوطن، ليصير بموجبها هذا الشقيّ طريدةً، غنيمةً، فتغترب فيه القيمة، ليغدو موطناً، بعد أن كان وطناً.

في واقع هذا المناخ تنشأ فصول النموذج، الذي لم تكن شخصية "أسوف" سوى اختزال له، نموذج ميثولوجي، ديني، وجوديّ، أتحفتنا به متون التوحيد في صيغة رمزية، حاملة لمبدأ الحرية، التي كانت دين هابيل، المسكون بجرثومة النظام الرعويّ، ليتنزّل ضيفاً في الحجر، مستعيراً هوية روح نموذج هو سَلَفٌ، نسج بأنفاس الحبّ المثال المرسوم في صحيفة الصلد، ليكون الشهادة على ماهيّة الضحية، التي ستلقى مصرعها بنصل الإنسان القادم من الشمال، الحامل لورم النظام العمراني، المجبول بآفةٍ هي المِلكيّة، المنتَجة بحرف الإستقرار الفلاحي، ككيان اقتصادي موبوء بالإثم بطبيعته، الجنونيّ في عدائه للخصم الرعويّ، الزهديّ، الذي لم يكن ليقبل بغير الحرية ديناً.

هذا الصدام هو عصب الدراما في "نزيف الحجر". أمّا مبدأ التحوّل، في المرويّة، ففلسفةٌ من وحي التقنية.

التقنية؟

الحقّ أن التحوّل مسألة أكثر تعقيداً من مجرّد تقنية. لأنها تعبيرٌ عن محو الحدود، التي يسوّقها المنطق كقدس أقداس، بين حيوانيّة الإنسان، وإنسانيّة الحيوان، أو ما اعتدنا أن نسمّيه حيواناً، خصيصاً كي نقترف في حقّه الكبائر. ففي واقع بيئي مجبول بحريّة الأبعاد القصوى، كالصحراء، فقط تزول السدود، لتتماهى الطبيعتان: الطبيعة البيئيّة مع الطبيعة الروحية، فيحقّ لـ"أسوف" أن يتنكّر في جرم الودّان بمشيئة الإنتماء السلالي المتوارث خلفاً عن سلف، كي ينجو من قبضة الطليان، ثمّ يهبّ الأب الراحل لنجدته في موقف الهاوية، مستعيراً جلد الودّان أيضاً، كي ينقذه من السقطة، برهاناً على وحدة الكائنات في واقع تهيمن فيه حرية الأبعاد القصوى كما الصحراء.

وأن نسلّم بهويّة حضور الحرية في الأبعاد القصوى في واقع الصحراء، يعني أن نسلّم بحقيقة واقع الصحراء الميثولوجي. وأن نقنع بهويته الميثولوجية يعني أن نقنع بأنّ المكان فيه ميثولوجي أيضاً، وأن يكون المكان ميثولوجيا يعني أن الزمان في رحابه ميثولوجي. وأن يعترف الزمان، مع قرينه المكان، بماهيتهما الميثولوجية يعني أن الوجود برمّته في الصحراء ميثولوجي. وأن يكون الوجود في أرجوحة الحرية، الملقّبة باسم الصحراء، ميثولوجيا سوف يعني أن هذه الصحراء تحيا واقعاً غيبيّاً.

الحضور في هذا الواقع هو ما يبرّر محو الحدود بين الكائنات، لتُسفر صفقة وحدتها عن تماهٍ لن يستهجن فيه أن تعتنق الأنعام طبائع الأنام، أو العكس، لأن السباحة في فلك حرية الأبعاد القصوى يبريء ذمّة الفريقين، ويبيح ما نحسبه بمنطقنا شذوذاً عن الطبيعة الأمّ كتناسخ الأرواح، على نحوٍ يفوق بما لا يقاس نموذج كافكا الذي يصحو في أحد الأيام ليكتشف أنه تحوّل صرصاراً، أو نموذج ماركيز الذي تستقلّ فيه الفتاة الشقيّة ملحفةً لتسبح على متنها في الفضاء، أو عجائب القزويني، أو شطحات درويش في مقام فرانسوا رابليه.

والسبب؟

السبب بسيط، وهو أن الواقع العمراني الذي تسرح في رقعته هذه النماذج هو: هويّة واقعيّة. ماذا يعني أن تكون الهوية واقعيّة؟ أن تكون الهوية واقعية يعني أنها هوية حرفية. وأن تكون الهوية حرفية يعني أنها محدودة الصلاحية؛ لأنها تعدم لا محدودية البعد الميثولوجي، الناطق الرسمي باسم العالم الغيبيّ، المسكون بمنطق حريّةٍ، تحاجج بالإنتماء إلى طينة الأبعاد القصوى؛ لأن هنا، في هذا الواقع الموسْوِس باللاواقع فقط، تملك الجنيّات الحقّ أن تزغرد في الغيران ، وتقرع ذرّات الرمل طبول الأعراس، ويتبارى فرسان الجنّ بالرقص وهم يمتطون ظهور أشباحٍ بلا روس، ويُقبل على النجوع الأسلاف وهم يتنكّرون في أجرام المهاجرين الأبديين الباحثين عن "واو" المفقودة، ويروق حسان أهل الخفاء، المهووسات بعشق رجال الإنس، أن يستدرجن الأبطال لينجبن من صلبهم ذريّةً، وتحلّ على النجوع أفواج القوافل القادمة من المجهول، لتقايض مسحوق الملح بوزنه تبراً، حتى إذا استيقظ أهل المكان في الصباح لم يعثروا للأفواج على أثر، ليتحوّل التّبر في أياديهم هباءً!

في واقع الحرية، في أبعادها القصوى، يهيمن سلطان اللاحدود، ويسري في الوجود الجمال، ويصير الشعر لغة الخطاب، في حين يجود الحبّ بوصيّته القاضية بتناوب الأدوار، الذي لم نجد له إسماً في لغتنا سوى: الأسحار!

يحدث هذا لأن الصحراء مكانٌ إستقال من هويّة المكان، وطبيعة تنكّرت لطبيعتها كطبيعة، ولم يبقَ لها إلاّ أن تعترف بحقيقتها كـ روح: الصحراء روح العالم التي برهنت للخليقة على قدرة الروح في أن تتجسد!

ففي واقعٍ يسري فيه الباطل، وتغترب فيه الحقيقة، شيمة الجسد أن ينزف، حتى لو كان حجراً، شيمة الحرف أن ينزف، حتى لو كان حجراً!