وفق مصادر واشنطن، اختار الرئيس الأميركي جو بايدن أقل الردود قسوة من مروحة اقترحها عليه وزير الدفاع لويد أوستن. فسّرت تلك المصادر الأمر على أنه رسالة ستفهمها إيران مفادها أن المرونة التي تظهرها إدارة بايدن، مقارنة بالإدارة السابقة، لا تسمح باختراق خطوط حمر، وأن استهداف المصالح الأميركية سيقابل برد ناري دون تردد.

في التفسير أيضا أن الإدارة لم تكن تريد إحراج الحكومة العراقية بعد أيام على اتصال بايدن مع رئيسها مصطفى الكاظمي، فارتوئي ضرب أهداف للميليشيات العراقية داخل الأراضي السورية.
بيد أنه من الجدير تسليط المجهر على الحدث من زاوية أخرى.

بدت العملية العسكرية تذكير لكل الفرقاء بأن الولايات المتحدة، التي تمتلك قوات محدودة العدد في سوريا مقارنة بما تمتلكه بقية الأطراف الإقليمية والدولية المنخرطة بالصراع في هذا البلد، هي الرقم الصعب في هذا الصراع. ولئن اعتادت دمشق وطهران على "عادية" الضربات الإسرائيلية لمواقع وقوافل قواتهما والميليشيات التابعة لهما، فإن الحدث أربك موسكو وجعلها من جديد مشلولة أمام أمر واقع يُفرض داخل ميدان يفترض أنه ميدانها الأول.

والأدهى أن واشنطن أبلغت موسكو بالغارة قبل حدوثها بدقائق، تماما كما هو معمول به مع الغارات الإسرائيلية. والغارة بدت مناسبة لوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف للتشديد "على الأهمية القصوى لاستئناف الاتصالات على المستوى السياسي والدبلوماسي بين موسكو وواشنطن بشأن سوريا"، مضيفاً: "نأمل أن تشكل الإدارة (الأمريكية) الجديدة قريبا فرقها المعنية بهذا الشأن".

جاء "أمل" الوزير الروسي غريبا كرد فعل على سياق يفترض أنه ينال من هيبة روسية ومن دورها الراعي للشأن السوري. حتى أن في هذا "الأمل" ما يشبه الاستجداء لاهتمام أميركي لطالما كان مفقودا أو ضبابيا مبهما ترك القيادة الروسية دون بوصلة ودون أفق للخروج من أوحال هذا الصراع. حتى أن لافروف وجد في الحدث مناسبة للإشارة إلى "بيانات غير مؤكدة على أن الولايات المتحدة لا تنوي الانسحاب إطلاقا من سوريا"، وبالتالي حاجة موسكو لتوضيح هذه المسألة في اتصالاتها مع واشنطن.

والحال أن موسكو لم تعد تطرح نفسها زعيمة حصرية لإدارة الشأن السوري. دخل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في سبتمبر 2015 بعد ساعات على لقاء جمعه مع الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما. فُهم حينها أن الفلاحة الروسية تحظى بضوء أخضر أميركي (بعد الإسرائيلي)، ثم أتى القرار الغربي بعدم تزويد المعارضة السورية بأية أسلحة نوعية ليضيف تواطؤً مكشوفا مع الورشة العسكرية الروسية. وإذا ما عوّل بوتين على الرعاية الغربية لورشته العسكرية، فإنه عوّل آليا على هذا الغرب للنجاح في قطف ثمار "النصر" سياسيا. وهذا لم يحصل.

تستنتج موسكو هذه الحقيقة بمرارة. تشعر بأن كل المنظومة الغربية تكبح طموحاتها في تسويق الحل الروسي لسوريا دولياً، وأن أوروبا وواشنطن ودول المنطقة تشترط عملية سياسية تتماشى مع روحية القرار الأممي 2254 (2015) قبل الانخراط ماليا وسياسيا في سوريا.

وتستنتج موسكو، وعلى الأقل وفق إعلامها والمعلقين الذين ينقلون ما تود تسريبه للعالم، أنها ليست ممسكة بالوضع في سوريا، وأن هناك لاعبين كثر، وأنها غير قادرة على إنضاج أو فرض الحل الذي تقبله المنظومة الغربية. وفي ذلك التسريب عبق رغبة روسية في أن تكشف واشنطن عن موقف بإمكانه توجيه حلفائها وإبلاغ العواصم المنخرطة بالصراع السوري بنقطة توازن جديدة.

والواقع أن سوريا ليست من الأولويات الاستراتيجية للولايات المتحدة.

أسقط أوباما خطوطه الحمر وتراجع عن التدخل بعد اتهامه دمشق باستخدام الأسلحة الكيماوية (2013)، ومنع أي "بركة" عن أي همّة أوروبية لوقف المأساة في سوريا.

ذهب خليفته دونالد ترامب أبعد من ذلك، أعلن عزمه سحب كل القوات الأميركية من هذا البلد، قبل أن يبقي جزءا منها استجابة لضغوط البنتاغون. وحين أطل الرئيس الحالي جو بايدن على الشرق الأوسط، تحدث عن مأساة اليمن واعدا بوقف حربها، دون أن يلحظ المأساة في سوريا ولا الحرب هناك.

وللمفارقة فإن واشنطن التي تمارس "زهدا" في سوريا تمارس في نفس الوقت مع حلفائها في المنطقة والعالم حق الفيتو على مخارج يراد منها الاهتداء إلى حل سياسي في هذا البلد.

والمفارقة أيضا أن واشنطن لطالما ردت أطراف المعارضة السورية ناصحة إياهم بالتحدث مع روسيا، فيما روسيا نفسها لم تكن تشعر أن الإدارات الأميركية ستسمح لها بقطف ثمار ما زرعته في سوريا منذ عام 2015. وروسيا التي بدت متبرمة من خواء عملية سوتشي-استانا، ومن هراء التعويل على شراكة سريالية مع تركيا وإيران وإسرائيل، باتت تحتاج إلى هذا "التواصل" الذي يأمله لافروف مع أميركا.

ليست المرة الأولى التي تشن فيها الولايات المتحدة ضربات ضد أهداف لدمشق وطهران (وحتى لفاغنر الروسية) داخل الأراضي السورية، لكنها المرة الأولى التي تجد فيها موسكو الأمر مناسبة "سعيدة" لدعوة واشنطن لشراكة باتت تراها روسيا مطلوبة لإدارة أزمة هذا البلد. ألم يقل بايدن America is back؟