في 14 يناير 2019، اجتمعت 7 دول متوسطية، وهي مصر والأردن وإسرائيل وفلسطين وإيطاليا وقبرص واليونان، حيث أعلن إنشاء "منتدى غاز شرق المتوسط"، ومقره القاهرة التي استضافت الاجتماع حينها.
وذلك بهدف تنسيق السياسات الخاصة باستغلال الغاز الطبيعي بما يحقق المصالح المشتركة لدول المنطقة، وتسريع عملية الاستفادة من الاحتياطيات الحالية والمستقبلية من الغاز بتلك الدول، وصولا إلى تأسيس منظمة دولية تحترم حقوق الأعضاء في مواردها الطبيعية بما يتفق ومبادئ القانون الدولي، ودعم جهود الدول الأعضاء في الاستفادة من احتياطاتهم من الغاز، واستخدام البنية التحتية، وبناء بنية جديدة، بهدف تأمين احتياجاتهم من الطاقة لصالح رفاهية شعوبهم.
وقتها بدا حلما أن يتحول هذا التجمع سريعا إلى منظمة دولية حكومية لها ما لها من امتيازات المنظمات الدولية وحضورها وقوة تأثيرها ورسمية تمثيلها في المحافل الدولية، لكن ما بدا أنه حلما تحول قبل مرور عامين إلى واقع وذلك بفضل إصرار وقوة إرادة الأطراف الفاعلة في هذا التجمع على التغلب على كافة الصعاب، التي كان يمكن أن تقف حجر عثرة في سبيل تحقيق هذا الهدف الحلم.
ففي 22 سبتمبر الماضي، وقع وزير البترول والثروة المعدنية المصري، طارق الملا، على ميثاق هذه المنظمة الوليدة مع أعضائها من قبرص واليونان وإيطاليا والأردن والسلطة الفلسطينية وإسرائيل على أن تكون القاهرة مقرا لها نظرا لخبرتها الكبيرة في مجال الغاز الطبيعي وبنيتها التحتية المتميزة وثقلها السياسي الكبير وسعيها الدؤوب للتحول إلى مركز إقليمي وطريق رئيسي لتجارة الغاز، وهو ما أصبح خياراً استراتيجياً للدولة المصرية لا رجعة عنه ولا سماح بوجود منافس فيه.
تمثل هذه الخطوة الضخمة نقلة نوعية في مجال التجارة الدولية للغاز الطبيعي والاستثمار فيه، وخطوة هائلة ومحورية في تحقيق حلم مصر في التحول إلى مركز إقليمي لتجارة لغاز الطبيعي، لما ستجنيه من عائد نظير تحويلها الغاز الطبيعي لبقية الدول المشاركة في المنتدى، ومع الوقت الغازين اللبناني والسوري أيضاً، إلى غاز طبيعي مسال وإعادة تصديره بجانب الغاز المسال المصري إما إلى أوروبا أو آسيا-المحيط الهادئ، حيث يزداد الطلب على الغاز الطبيعي المسال بوتيرة سريعة.
في المقابل يمكن أن يمثل إنشاء هذه المنظمة نهاية رسمية لحلم تركيا في أن تكون مركزاً للطاقة، وهو الأمر الذي سعت إليه طويلاً استغلالاً لموقعها الاستراتيجي الذي حاولت من خلاله تعويض فقر موارد الطاقة، بوقوعها عند مفترق الطرق بين جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق ودول الشرق الأوسط الغنية بالنفط والغاز، والدول الأوروبية التي تحتاج إلى إمدادات النفط والغاز.
والخلاصة هنا أنه بإنشاء هذه المنظمة واستضافة القاهرة لها فإن حلماً مصرياً يتحقق وآخر تركي يتبخر، حيث تمثل هذه الخطوة حسماً للتنافس بين جيران كنز الغاز الطبيعي الأكبر في العالم بمنطقة شرقي البحر المتوسط، وإجهاضاً لأحلام تركيا التي خططت وسعت منذ سنوات إلى الهيمنة على سوق الطاقة في هذه المنطقة، ومحاولة الاستيلاء على ثرواتها عبر عمليات تنقيب غير شرعية بغية التحول إلى مركز إقليمي لتجارة الغاز الطبيعي.
لكن مصر كانت دائما سابقة بخطوات في إطار سعيها لتحقيق الاكتفاء الذاتي من الغاز ثم التحول إلى تصديره وانتهاء بالتحول إلى مركز إقليمي لتجارة الغاز عبر أراضيها، في ظل تنافس شديد مع تركيا التي أزعجتها التحركات المصرية الواعية والمحسوبة في هذا الصدد.
واستمر الأمر سجالاً بين الدولتين إلى أن تمكنت مصر من قلب المعادلة بعد اكتشاف حقل "ظهر" العملاق، وبدء الإنتاج منه بشكل مبكر عما كان مخططاً له، ثم اكتشاف حقل "نور" البحري العملاق، الذي أضاف عنصراً جديداً إلى المشهد باحتوائه على نحو 60 تريليون متر مكعب من احتياطي الغاز وفقاً للتقديرات المبدئية، وهو ما يعد أكثر من ضعف الاحتياطي لحقل ظهر البالغ 30 تريليون قدم مكعبة، الأمر الذي أربك الحسابات التركية
ولعل ما أضفى زخما وأضاف قوة لهذه المنظمة الوليدة هو انضمام دولة الإمارات العربية المتحدة إليها بصفة مراقب، لما لها من مكانة دولية وإقليمية كبيرة بسوق الطاقة العالمي، وفي ضوء الخبرات الطويلة والاستثمارات الضخمة التي تمتلكها أبوظبي في قطاع الطاقة والغاز الطبيعي، ولما تحتفظ به من علاقات وطيدة مع كافة الدول أعضاء المنظمة بما سيسهم في تحقيق الهدف الأساسي منها وهو الحفاظ على حقوق الدول المطلة على شرق المتوسط في ثروات الغاز الطبيعي، وإنشاء سوق غاز إقليمي يخدم مصالح الدول الأعضاء من خلال تأمين العرض والطلب، وتنمية الموارد على الوجه الأمثل وترشيد تكلفة البنية التحتية، وتقديم أسعار تنافسية، وتحسين العلاقات وتعزيز التعاون من خلال صياغة سياسات إقليمية مشتركة بشأن الغاز الطبيعي.
انضمام دولة الإمارات لهذه المنظمة، والذي جاء أثناء الزيارة التي قام بها الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة للقاهرة الأسبوع الماضي، حظي بتقدير وتثمين الجانب المصري لإدراكه أهمية الدور الإماراتي في زيادة تأثير المنظمة وقدرتها على التصدي لأطماع بعض من دول الجوار، خاصة في ظل العلاقة الاستثنائية بين مصر والإمارات والتنسيق المشترك وتلاقي وجهات النظر في كافة القضايا الإقليمية والدولية، الأمر الذي تجلى في بيان الرئاسة المصرية الذي أكد على "أهمية القيمة المضافة التي ستسهم بها دولة الإمارات في نشاط المنتدى لخدمة المصالح الاستراتيجية وتعزيز التعاون والشراكة بين دول المنتدى".
وأخيراً يمكن القول إن ما أعلن في القاهرة في سبتمبر الماضي يمثل خطوة عملاقة نحو تأسيس كيان أو تجمع عملاق لتجارة الغاز نظراً لحجم الاحتياطات الضخمة، التي تملكها دوله السبعة والتي تدور حول 122 تريليون قدم مكعبة من الغاز، هذا بالإضافة إلى ما تملكه الدول التي تشارك في المنظمة بصفة مراقب من تأثير اقتصادي وسياسي هائل على الساحتين الإقليمية والدولية، هذا بالإضافة إلى أن عضوية المنظمة لن تقتصر على الأغلب على أعضائه السبع المؤسسيين، لأن عضوية المنظمة ستكون مفتوحة لأي من دول شرق البحر المتوسط المنتجة أو المستهلكة للغاز، أو دول العبور ممن يتفقون مع المنظمة في المصالح والأهداف بعد استيفاء إجراءات العضوية اللازمة التي يتم الاتفاق عليها بين الدول المؤسسة.
ولعل أولى الدول المرشحة للانضمام لهذا المنتدى هي لبنان مع تحقيقه اكتشافات يمكن أن تضعه على خريطة إنتاج الغاز، وكذلك المغرب، وربما سوريا بعد عودتها لسياقها العربي، الذي أبعدت عنه، وهنا تبقى المحصلة الرئيسية لتدشين هذا المنتدى أن كل دول شرق المتوسط المنتجة للغاز أصبحت تقف متحالفة ومترابطة المصالح في جانب، فيما بقت تركيا وحدها مع الجزء الذي تحتله من قبرص في الجانب الآخر.
وتبقى هناك أفكار كثيرة يمكن بلورتها لكي يخرج هذا الكيان في أفضل صورة ممكنة تضمن بقاءه واستمراريته وفاعليته وتأثيره في سوق الغاز الدولية، وهنا لا بد من العمل فورا على بلورة تصورات خلاقة حول هيكل المنظمة وأجهزتها الرئيسية وآلية اتخاذ القرارات فيها بما يمكنها من أن تفرض نفسها رقماً صعباً في سوق الطاقة الدولية، وبما يقطع الطريق أمام محاولات أطراف إقليمية مثل تركيا وقطر وإيران وقوى دولية مثل روسيا في التحكم في تفاعلات هذا السوق أو التلاعب به، في وقت طغى فيه الاقتصاد على السياسة، وأصبحت خطوط الغاز هي التي تحدد خريطة التحالفات وطبيعة التفاعلات في الساحتين الإقليمية والدولية.