نعم ، توارت الحرب النووية ، ربما إلى حين ، غير أن هذا  لا يعني أن السلام العالمي لم يعد مهددا ، إذ ظهرت على  السطح أوجه مخاوف أخرى  ، تجعل من نهار البشرية قلق، ومن ليلها أرق ، ومن هنا تأتي هذه الرسالة ، إنطلاقا  من الدور الأخلاقي والأدبي الذي يمثله البابا  والبابوية .

ولعل 2020 هو عام إستنائي وعن حق ، فلم تعرف البشرية منذ مائة عام ، أي منذ نهاية وباء الإنفلونزا  الإسبانية عام 1918 ، جائحة أو وباء خطيرا مثلما  هو حادث الآن ، وقد كان فرنسيس سباقا  طوال الأشهر الماضية التي أنتشر فيها  الوباء ، في السعي نحو تشجيع البشرية على  الثقة في مراحم الله من جهة ، والإيمان الراسخ بأن الأخوة الإنسانية وحدها هي التي تكفل الإنتصار على  الأزمة ، والعبور من فوقها  إلى  عالم الرجاء الواسع  والأمل الفسيح .

جاءت  رسالة اليوم العالمي الرابع والخمسين للسلام هذا العام تحت عنوان ، " ثقافة  العناية  كمسيرة  سلام "،ولا يحتاج المرء إلى تفسير الخطوط العريضة لها، ذلك أن ثقافة الرعاية  ، كإلتزام مشترك وتضامني وتشاركي من أجل حماية  وتعزيز كرمة الجميع  وخيرهم ، وكإستعداد للإهتمام والتنبه والشفقة والمصالحة  والشفاء والاحترام المتبادل والقبول المتبادل ، تشكل وسيلة  مميزة لبناء السلام .

الرسالة المطولة  التي أصدرها  البابا فرنسيس ، الفقير وراء جدران الفاتيكان ، يعانق فيها  المرء روح وثيقة الأخوة الإنسانية التي وقعت  في أبوظبي في فبراير شباط من عام 2019 ، تلك الروح التي يحتاجها العالم ، للخلاص من اشكال التطرف والغلو والتمحور حول الذات ، والتي أعتبرها فرنسيس تقف حدا وسدا في طريق الأخوة الحقيقية بين بني البشر ، والذين هم في الأصل ينتمون إلى خالق واحد .

أظهرت أشهر محنة  إنتشار فيروس كوفيد-19 المستجد ، أنه إلى جانب أعمال المحبة  والتضامن ،   هناك ومن أسف زخم جديد الشكل ، مؤلم الفعل ، تكتسبه تيارات مختلفة  سياسية وإجتماعية ، من القومية  والتمييز العنصري والتعصب ،وحتى الحروب والصراعات التي تزرع الموت والدمار .

ما الذي تعلمنا إياه تلك الأحداث ؟

بحسب فرنسيس ، أسقف روما ، خليفة بطرس كبير الحواريين ،  إنها درس يعلمنا  أهمية الإعتناء ببعضنا  البعض  ورعاية  الخلق ، من أجل بناء مجتمع يقوم على  علاقات أخوية  .

أما التضامن عنده فيعبر بشكل ملموس عن محبتنا للآخر ، والتي ليست   شعورا  بتعاطف مبهم ، بل عزما  ثابتا  ومثابرا  على العمل من أجل الخير العام ، أي من أجل خير الكل وكل فرد ،  لأننا  جميعنا  مسؤولون حقا  عن الجميع .

ولعله من المؤكد أن التضامن هو وسيلة للأخوة الإنسانية   ، يساعدنا  على  رؤية الآخر – الشخص ، أو بمعنى  واسع ، الشعب أو الأمة ، ليس بمثابة إحصاء ، أو وسيلة  نستغلها  ثم نستبعدها  عندما لم نعد بحاجة  إليها ، إنما  بمثابة  قريب لنا ، ورفيق للدرب ، مدعو للمشاركة مثلنا ، في وليمة  الحياة التي يدعو الله تعالى  إليها الجميع  بالتساوي .

في رسالته ليوم السلام العالمي للعام 2021 يعلو صوت فرنسيس كصوت صارخ في البرية ، في مواجهة عالم تهيمن عليه ثقافة الإقصاء ،  وإزاء تفاقم عدم المساواة داخل الدول وفيما بينها ،  يدعو الرجل ذو الثوب الأبيض البالي ، كما رأه العالم أكثر من مرة ، في مشهد يعكس الفقر الإختياري الحقيقي الذي يعيشه ، وبعيدا عن الزيف والرياء ، أو البهرج الخداع ، المسؤولين عن المنظمات الدولية والحكومات ، والعالم الإقتصادي والعلمي ، وعالم التواصل الاجتماعي والمؤسسات التعليمية ، إلى تبني "بوصلة "، مبادئ الأخوة الإنسانية ، حتى  يطبعوا  مسارا  مشتركا  لعملية العولمة ، مسارا  إنسانيا  حقا ، وهذا  ، في الواقع ، من شأنه أن يسمح بتقدير قيمة وكرامة  كل شخص ، وبالعمل معا  والتضامن أجل الخير العام ، فنقدم بعض الراحة  للذين يعانون من الفقر والمرض والعبودية  والتمييز والصراعات .

يشجع فرنسيس الجميع  على  أن يصبحوا  شهودا لثقافة الرعاية ، من أجل التعويض عن الكثير من التفاوتات الاجتماعية  ، وعنده أنه لن يكون  هذا  ممكنا   الإ بمنح المرأة دورا  رئيسيا  قويا وواسع  النطاق ، في الاسرة  وفي كل المجالات  الاجتماعية  والسياسية  والمؤسسية  .

على  أن علامة إستفهام جذرية تطرحها فكرة فرنسيس عن التضامن ، إذ كيف لهذا النسق الإيماني والوجداني أن يترسخ في نفوس الأجيال الصاعدة ليضحى قاسما أعظم مشترك ، محبوبا ومرغوبا على  مدى الأزمان ؟

يؤكد بابا الأخوة الإنسانية على أن تعزيز ثقافة الرعاية  يتطلب عملية تربوية ، وتشكل بوصلة المبادئ الإجتماعية  ، أداة موثوقة  لمختلف السياقات المترابطة ،  والتربية  على الرعاية تنشا أول الأمر ، وأهمه  في الاسة  ، التي هي النواة الطبيعية  والاساسية للمجتمع ، حيث يتعلم المرء فن العلاقات والاحترام المتبادل .

لم يطرح فرنسيس من حساباته في طريق الرعاية وثقافة السلام ، الدور الذي يمكن للديانات عامة ، وللقادة الدينيين خاصة أن يلعبوه  في نقل قيم التضامن واحترام الإختلاف والترحيب والرعاية  بأكثر الإخوة ضعفا  إلى  المؤمنين في كل الملل والنحل ، الأعراق والطوائف .

لن يستقيم السلم العالمي من دون ثقافة الرعاية  ، تلك التي تشكل سبيلا مميزا لبناء السلام ، هكذا  يختم ويوجز فرنسيس رسالته للعالم في هذه  الأيام المباركة ، على صعوبتها  وألمها ، فالرعاية القلبية والعقلية ، تولد التزاما مشتركا  ومتضامنا  وتشاركيا من أجل حماية  وتعزيز كرامة وخير الجميع .

العالم في حاجة إلى مسارات سلام تقود إلى إلتئام الجروح ،  وهناك حاجة أشد إلى صانعي سلام ، مستعدين للشروع في عمليات الشفاء والتلاقي ببراعة  وجرأة .