وستقود الانتخابات تبعا لذلك إلى بقاء الطبقة السياسية التي صنعت الفشل الفادح منذ ٢٠٠٣، لأن هذه الطبقة متمرسة بـ"لعبة" الانتخابات، عكس القوى الجديدة التي يمثلها المحتجون والمتعاطفون معهم الذين يفتقرون لمثل هذا المراس الانتخابي المهم. وهكذا، فمن الأفضل ألا تمنح القوى الجديدة للقوى التقليدية القديمة شرعيةً تفتقدها من خلال المشاركة معها في مشروع خاسر سلفا سيُفقد الاحتجاج زخمه الوطني وشرعيتَه الأخلاقية. رغم أن هذه الحجة تبدو، في ظاهرها، صحيحة وأخلاقية، فإن جوهرها دوغمائي يخلط بين الوسائل والنتائج، ويقوم على يقين بالنتائج سلفا، من دون استثمار في الوسائل التي يمكن أن تصنع نتائج مختلفة عن المتوقع. إذن، يكمن الخلل الأساسي في هذه الحجة في طابعها الغائي، الذي يمنح الأولوية للغايات على حساب الصيرورات، وعبره، يفترض وصاية معرفية وأخلاقية على الجمهور.

ما الذي تعنيه الغائية؟ المصطلح فلسفي يشير إلى منهج في التفكير، شائع كثيرا في الشرق الأوسط، يحصر تقييم الأشياء، المشروعة بذاتها، والأفعال المرتبطة بها، في النتائج التي يتصور أنها ستتمخض عنها في آخر المطاف من دون اهتمام جدي بالأفعال نفسها، والآفاق المختلفة التي يمكن أن تقود إليها سلبًا أو إيجابًا. نجد بعض الأمثلة في التاريخ العراقي الحديث على الفهم الغائي للمجتمع في جدال عقد العشرينيات عن تعليم البنات في المدارس الحكومية والانقسام الاجتماعي والثقافي الحاد حينئذ، إذ وقفت الأقلية إلى جانب هذا التعليم واعتبرته جزءا طبيعيا من حقوق المرأة وتطور المجتمع ونهضته، فيما عارضته الأغلبية بسبب اعتقادها أنه يؤدي إلى فساد أخلاق المرأة، ومن ثم انحلال المجتمع. كانت حجة هذه الأغلبية غائية تماما، إذ حُدد الموقف من تعليم البنات، ليس على أساس الصيرورة المعرفية والشخصية التي تمر بها الفتاة، وتغيرها الإيجابي المحتمل عبر تجربة التعليم بما يعنيه من اكتشاف عوالم وآفاق جديدة لم تكن متيسرة في غياب التعليم، بل على أساس يقين أخلاقي بأن النتيجة النهائية للتعليم ستكون تخلي الفتاة عن الأخلاق وتفكك المجتمع، وبالتالي ينبغي معارضة صيرورة تعليم المرأة نفسها منذ البداية، لمنع الوصول إلى النتيجة المؤسفة المفترضة. لعل المثال الأقرب لهيمنة الغائية في العراق هو في تجربة معظمنا في درس الأحياء، في المرحلة الإعدادية، حين يقرر الأستاذ، غالبا، أن يقفز فوق الفصلين المتعلقين بتركيب وعمل الجهازين التناسلي الأنثوي والذكري وكيفية حصول الحمل، ظنا منه، في انعكاس لتفكير اجتماعي سائد في البلد، أن تدريس هذه المادة العلمية يؤدي إلى إثارة فضول الطلاب والطالبات تجاه الجنس والسعي وراءه، بدلا من تعريفهم بحقائق الجسد الإنساني وجعلهم أكثر وعيا ومعرفة به.

ما يجمع المثالين أعلاه هو ارتياب بالإنسان، كفرد عاقل قادر على التطور والنضج، عند توفر الأدوات، وعلى اتخاذ مواقف أخلاقية وعقلانية على أساس قناعات داخلية مستقلة، وليس على أساس إملاء أو تلقين اجتماعي سائد. من هنا يكثر التفكير الغائي بين القوى المحافظة في المجتمع التي تقلق على العقيدة والدين والعشيرة والحزب أكثر من قلقها على أوضاع الناس ووقائعهم اليومية. لكن لا يمنع كل هذا من تسرب مثل هذا التفكير إلى قوى ليبرالية تغلب التحليل العقلاني والمتأني على القلق الأخلاقي والأيديولوجي، في فهم الحياة واتخاذ القرارات بشأنها. فعلى سبيل المثال، في إطار نقاش مآلات الاحتجاج العراقي منذ ٢٠١٩، تبرز الكثير من النوازع الغائية ذات الطابع السياسي، وليس الأخلاقي الشائع بين القوى المحافظة. تظهر بعض هذه النوازع في مواقف احتجاجية كثيرة بينها شيطنة العمل السياسي ورفض تشكيل الأحزاب ومقاومة دخول التنافس الانتخابي، وهي الصيرورات أو الأدوات الضرورية الوسيطة التي تؤدي إلى الإصلاح كهدف نهائي ومفتوح. اختصر الاحتجاج العراقي مبكرا وعلى نحو مثير للإعجاب مسعاه الإصلاحي الوطني النبيل هذا عبر الجملة العراقية، العظيمة في محتواها والواضحة في بساطتها، التي أصبحت عنوان الاحتجاج وغايته: "نريد وطنا". بدلا من تبني هذه الصيرورات التي تقود إلى الإصلاح، تبرز الغائية هنا على نحو مقلق، من خلال اعتبار هذه الصيرورات تدجينا للاحتجاج وإفراغا له من محتواه، والإصرار على استمراره "نقيا" فوق السياسة والأحزاب والانتخابات لأن هذه كلها تعني، في أحسن الأحوال، نوعا من التدنيس له، أو، في أسوئها، دفعا له في سباق خاسر سيضعفه، معروفة نتيجته سلفا: تجديد الطبقة السياسية لشرعيتها من خلال انتخابات مقبلة "ستنتصر فيها حتماً".

تكمن الغائية في هذا التفكير في اعتبار الاحتجاج نفسه غاية وهدفا، بوصفه لحظة تضحية عراقية خالصة، وسط "قاذورات" السياسة والمصالح والأحزاب، أي في التمسك الشديد بالاحتجاج، شكلا ومضمونا، كمثال وطني نادر وعدم التفريط فيه عبر إنزاله من عليائه الأخلاقية والوطنية وإدخاله دهاليز السياسة والتشكيلات الحزبية والصراعات الانتخابية، من دون وجود ضمانات لنجاحه في التغلب على هذه التحديات. وقد تعد الغائية، بطبيعتها، نقيضا للبراغماتية التي تقوم على الإقرار بالوقائع كما هي والسعي لتغييرها من خلال الممكنات التي تتيحها هذه الوقائع. في سياق الاحتجاج العراقي، يعني هذا أهمية تبني فهم براغماتي للحظة العراقية الراهنة عبر الخوض في تناقضاتها وغموضها وتعقيدها لدفعها نحو المسارات المؤدية للإصلاح الحقيقي. في خريف ٢٠١٩ عند اندلاع حركة الاحتجاج، وصولا إلى ربيع ٢٠٢٠ عندما تراجعت هذه الحركة كفعل شعبي مهم يجري في الشارع ويحشد الجمهور ضد الطبقة السياسية المتنفذة، ليخلق عبر هذا التحشيد حسا جديدا بالوطنية العراقية، كان مناسبا وصحيحا أن تبقى الحركة من دون أطر سياسية، ولا قيادات شعبية أو ترتيبات هرمية، لأن مثل هذا التأطير السياسي والبناء الهرمي كان سيفقدها تلقائيتها ويقوض الإجماع الشعبي العراقي حولها. لكن منذ صيف ٢٠٢٠، مع إعلان موعد الانتخابات المبكرة وتشريع قانون جديد للانتخابات، إيجابي عموما، تحتاج أولويات الاحتجاج أن تتغير وتتجه نحو التأطير السياسي والهيكلة الحزبية للدخول في الرهانات الانتخابية، كي يتمثل صوت الاحتجاج في السياسة ويؤثر في المؤسسات من أجل إصلاحها على نحو حقيقي، وليس على النحو الترقيعي المعتاد الذي تدعو إليه أحزاب الطبقة السياسية التي تتقاسم النفوذ والموارد والقرار.

بالطبع لا يوجد فهم واحد أو موحد للوقائع، أيا كان نوع هذه الوقائع، مثل تلك التي تشكل اللحظة العراقية الراهنة، إذ يُحاجُّ محتجون ومحللون، مثلا، بأن الأحزاب التي تقاسمت السلطة وانتفعت منها واحتكرتها منذ ٢٠٠٣، متمرسة بـ"لعبة" الانتخابات، وأنها تمتلك قدرات تنظيمية عالية وخبرات متراكمة وموارد كثيرة غير متوفرة للمحتجين ستضمن لها فوزا سهلا في الانتخابات. جزء كبير من هذا الفهم منطقي ومعقول، إلا أنه يفسر الوقائع غائيا عبر استخدام جزء محدد من الوقائع وترك الأجزاء الأخرى، لتكريس فكرة عامة مغلوطة مفادها عدم جدوى المشاركة في الانتخابات ومقاطعتها. لكن هذه الوقائع تمثل جانبا واحدا فقط من تعقيد اللحظة العراقية الراهنة، فثمة جانب آخر من الوقائع يشير أيضا إلى أن هذه الأحزاب تشعر بالقلق من الانتخابات المقبلة لأنها تدرك أنها تعاني من أزمة سمعة وطنية وصلاحية سياسية، بسبب افتقارها للنزاهة في السلوك، والكفاءة في الأداء، وتحاصصها في المغانم والقرار، ورفضها تحمل المسؤولية عن الفشل. تشكل هذه كلها تركةً سياسية مُرهقة تحاول هذه الأحزاب التملص منها، من دون كثير نجاح لحد الآن. إضافة إلى ذلك، ليس منطقيا القفز على حقيقة أخرى مهمة برزت بوضوح منذ بدء الاحتجاج العامَ الماضي، وهي أن جمهور عام ٢٠٢٠ الغاضب كثيرا من هذه الأحزاب القائمة والمشكك فيها إلى أقصى حد، يختلف كثيرا عن جمهور ٢٠٠٥ أو ٢٠١٠ الذي كان منقادا تماما للهويات المكوناتية وافتراضاتها المحاصصية، التي روجت لها هذه الأحزاب بنجاح عال ووصلت عبرها إلى السلطة. وأخيرا، إذا كانت كل الجولات الانتخابية السابقة منذ ٢٠٠٣، لم تقدم بديلا وطنيّا حقيقيا عن أحزاب المحاصصة المكوناتية، يستطيع الجمهور المتبرم من الفشل المزمن لهذه الأحزاب اللجوء إليه، فإن بمقدور انتخابات ٢٠٢١ أن تقدم هذا البديل إذا أحسنت قوى الاحتجاج تنظيم نفسها لخوض هذا التحدي المهم. لكن لا يمكن لهذا الخيار أن يتوفر للجمهور الناخب إذا رفضت قوى الاحتجاج استثمار طاقاتها في صيرورات السياسة والانتخاب المتاحة.

ليس ثمة يقين من أن الخوض في صيرورة ما سيؤدي إلى النتيجة المتوخاة، إلا أن تجنب الصيرورات بكل احتمالاتها المختلفة وتفاصيلها المرهقة وحساباتها البراغماتية، باسم الوفاء لمثال أعلى لن يجد تطبيقه كاملا في الواقع، يعني شيئا واحدا فقط في السياق الحالي العراقي: بقاء الأوضاع السيئة، التي خرج المحتجون ضدها، على حالها.