إذْ لا يكون من توزيعٍ حقيقيّ للسّلطة ومن فصْلٍ فعليّ للسُّلط إلاّ متى تحقّق مبدأ المشاركة السّياسيّة للمواطنين في الحياة بوصفها التّجسيد الماديّ لنظامٍ سياسيّ قائم، فعلاً، على مبدإ توزيع السّلطة. وهكذا بمقدار ما يؤسِّس التَّوزيع ذاك للمشاركة السّياسيّة، تُعظِّم الأخيرة من ذلك التّوزيع وترسّخه.

السُّلطة في النّظام التّقليديّ مُلكيّة خاصّة لفردٍ أو هيئةٍ اجتماعيّةٍ محدودة أو عصبيّة أهليّة غالبة ولا شأن، بالتّالي، للمجتمع أو للرّعيّة بها؛ فهذه لا تعدو أن تكون موضوعاً لفعل تلك السّلطة، وما من شيء تملكه غير أن تخضع لها. التّقاطب بين الحُكّام والمحكومين كان حادّاً، في النّظام القديم، وما كان يمكن- معه- تخيُّل أن يصبح المحكوم حاكماً بالسّلاسة والتِّلقاء، ولا كان ذلك ممّا يمتكن التّفكير فيه؛ لأنّه يقع خارج الأفق الذّهنيّ في الأزمنة القديمة والوسطى. وعليه، امتنعت صيرورةُ المحكوم حاكماً إلاّ متى سلك الأوّلُ إلى ذلك سبيل التمرّد والثّورة على السّلطة القائمة؛ فإمكانيّة الاستبدال تقع خارج كيان السّلطة وليس من داخلها؛ لأنّها ليست ممكناً عادياً من ممكناتها.

تَغَيَّر مفهوم السّلطة في نظام الدّولة الحديث: لم يعد يُنظَر إليها بما هي مُلكيّة خاصّة لفريقٍ محدود من المجتمع، بل من حيث هي مُلكيّة عامّة، مثلُها مثل الثّروة وسائر مملوكات الشّعب السّياديّة. إذا كانت السّلطة ما تزال، إلى اليوم، مملوكة - في قسمٍ كبير من العالم - من قِبَل نُخب عسكريّة أو دينيّة أو عصبيّات أو من قِبل الحزب الواحد...، فهذه حالٌ تنتمي إلى نموذج السّلطة التّقليديّ - السّابق لقيام الدّولة الحديثة - ولكنّها لا تنقُض القاعدة التي انطلقنا منها، ومفادُها أنّ السّلطة في الدّولة الحديثة مُلكيّة عامّة، كما أنّ واقع تجارب الحكم في الأنظمة السّياسيّة الحديثة تقيم الدّليل الماديّ على صحّتها.

أن تصبح السّلطةُ مُلكيّة عامّة معناه أنّها حقّ من حقوق المواطنين أو، قل، باتت في جملة حقوق المواطَنة. على أنّ الحقّ هذا ينصرف إلى معنًى مخصوص: ليست السُّلطة كعكة تُقْتَسَم بالأقساط على الأفراد والجماعات، أو توَزّع بآلية الاحْتصاص (= المحاصصة) - على مثال توزيعها الشّائن في بلدان مثل لبنانَ والعراق - إنّما يعني الحقُّ فيها حقَّ المواطنين في المشاركة في إدارة شؤونهم العامّة. لا تُفْهم المسألةُ هذه إلاّ في ضوء تعريفٍ دقيقٍ لمعنى السّلطة: ليست السّلطة بشيءٍ آخر غير القدرة على إدارة الشّؤون العامّة، وحيازة الأدوات والوسائل - أطراً ومؤسّسات - القمينة بتأمين تلك القدرة على الإدارة. ماذا يعني التّمثيل والانتخابات، مثلاً، غير تأمين تلك الوسائل وتوفير إطار العمل للمشاركة في إدارة الشّأن العامّ.؟ ماذا يعني إقرار حرّيات الرّأي والتّعبير والنّشر وإصدار الصُّحف وتشكيل الجمعيّات غير توفير أسباب المشاركة السّياسيّة وأدواتها؟ حين يعبّر المواطنون عن آرائهم في الشّؤون العامّة، بحرّيّة، فهم يشاركون في الحياة العامّة؛ حين يشاركون في الاقتراع وينتخبون ممثّليهم في المجالس، فهم يشاركون في إدارة الشّأن العامّ؛ وحين يديرون المجالس المحليّة والوطنيّة، فهم يشاركون في إدارة شؤونهم. وهكذا تَرَاهم يدخلون، شيئاً فشيئاً، مجالاً كان مقفَلاً عليهم، ومن أحكار غيرهم، هو مجال السّلطة، في الوقتِ عينِه الذي تخرُج فيه السّلطةُ هذه من حال الانسداد لكي تصبح، بالتّدريج، نظاماً مفتوحاً.

على أنّه ينبغي أن يُنظَر إلى مبدإ المشاركة السّياسيّة نظرةً واقعيّة؛ تاريخيّة وتراكميّة، على نحوٍ نجانب فيه مسْلك النَّمْذجة الصّوريّة ومسْلك المعياريّة في التّفكير. ليس من نموذجٍ مرجعيّ معياريّ على المجتمعات والدُّول أن تحتذي حذوَه لكي يَتَحقَّق فيها مبدأ المشاركة السّياسيّة على نحوٍ دقيق. إذا كانت حالة التّداول على السّلطة L’alternance ، في الغرب اليوم، معياراً لتحقُّق المشاركة السّياسيّة في صورتها الأعلى، فإنّ الحالة هذه لا تصيب نجاحاً إلاّ في الدّيمقراطيّات العريقة؛ في بلدان خطت شوطاً كبيراً في تجربة المشاركة السّياسيّة، وحقّقت في ذلك تراكماً هائلاً من الخِبْرات والمكتسبات.

على ذلك، من المفيد لبلدان حديثةٍ عهدٍ بالحداثة السّياسيّة أن تبدأ تجربة المشاركة السّياسيّة من أنويّتها الأولى من دون تقليدٍ رثّ للآخرين المتقدّمين، وأن تَلِجَها صادقةً وتُراكم الخبرةَ فيها قبل أن تتطلّع إلى تحقيق الحلقات العليا؛ ذلك أنّ رحلةَ الألف ميل تبدأ بخطوةٍ واحدة.