نبست شفاه الرئيس المصري بالعبارات المتقدمة، في يوم 28 يوليو2020 ، بعد أن استبد القلق بجموع المصريين في الأيام الأخيرة من جراء التطورات الأخيرة المرتبطة بالمفاوضات غير المباشرة التي أفلحت منظمة الاتحاد الإفريقي في استئنافها مؤخرا، بعد انسدادات متواترة منذ تدشينها في أبريل عام 2011.

لا شك في أنها لم تكن سابقة يستبقها الرئيس المصري فقد شدد على أهمية المفاوضات غير مرة، ولكن توجه الرئيس المصري كان في موقع وكانت تحليلات وتأويلات نفرٍ غير قليل من المصريين المتحمسين في موقع مُغاير تماما لتوجه الرئيس ومؤسسات الدولة كافة، وهنا نؤكد أن التقديرات والقياسات للمصالح العليا للبلاد، والقرارات المصيرية وتبعاتها المتعلقة بالأمن القومي للدول ذات السيادة حكر محفوظ وميدان مكفول للسلطات السياسية "التنفيذية" للدول ، فالأخيرة وحدها التي تتحمل التبعات والنتائج حُلوها ومُرها.

جلي أن التفاوض هو الطريقة الأساسية والمعتادة لتسوية النزاعات الدولية ويمكن تعريفه باقتضاب بأنه: "كل لقاء بغية التوصل لاتفاق، ويمكن أن يحدث في إطارٍ ثنائيٍ أو متعدد الأطراف". وقد أكدت السابقات الممارسات الدولية أن التفاوض بصورة عامة يُعد عملاً سابقاً للجوء إلي أي طريقة أخرى للتسوية، وتكشف المادة الثانية من ميثاق منظمة الأمم المتحدة أنه يوجد بالنسبة للدول الأعضاء في المنظمة موجب عام بألا تتخلف عن التفاوض الذي تعرضه دولة أخرى هي في نزاع معها، وامتد ذلك الموجب فصار يشكل جزءا من القانون الدولي العام في الحقبة المعاصرة.

إن المفاوضات الدبلوماسية المباشرة تعد من أقدم وسائل تسوية النزاعات بين الدول، وكانت الدول في العهود الغابرة تشعر بوجود التزام يفرض عليها التفاوض قبل اللجوء إلى استخدام القوة حتى ولو لم يتعدّ ذلك الالتزام الإطار الشكلي، واعتُبِر التفاوض في القرون اللاحقة أنه يشكل أحد الشروط المسبقة الضرورية للإقرار بعدالة استخدام القوة، وحتى لو كان من الواضح أن المفاوضات لا تعدو كونها مجرد تظاهر فإن ذلك التظاهر يبقى ضروريا، إذ من دونه يواجه استخدام القوة الشجب والتنديد.

تعتبر المفاوضات المباشرة إحدى أهم الوسائل لتسوية النزاعات على اختلاف مجالاتها بين الدول، وتجري بين وفود خاصة ذات إلمام بهذه النزاعات، وتحتل المفاوضات المباشرة في القانون الدولي المركز الأول والرئيسي بين الوسائل السلمية كافة لتسوية النزاعات الدولية، ولأجل ذلك أدرجت المفاوضات المباشرة في المرتبة الأولى بين الوسائل السلمية كافة الوارد ذكرها في المادة 33 من ميثاق منظمة الأمم المتحدة، ويمكن أن يؤدي اللجوء للمفاوضات المباشرة إلى الحل المباشر للنزاع والاتفاق بشأن اللجوء إلى أي وسيلة سلمية أخرى لتسوية النزاع، حين لا تنجح الأطراف في التوصل إلى استخدام وسيلة سلمية معينة لتسوية النزاع من أساسه.

إن الإطار الزمني لعملية المفاوضات يختلف تبعا للظروف والسياقات التي تختلف من حالة لحالة، فقد تنتهى عملية المفاوضات خلال أيام وقد تستمر لعقود، كما يقدم الواقع العملي أمثلة كثيرة على مفاوضات جرت على نحو متقطع، وما المفاوضات المتقطعة بشأن تنفيذ اتفاقية إعلان المبادئ لسد النهضة الإثيوبي عام 2015، إلا نموذجا صارخا في هذا الصدد، ونزيد من الشعر بيتا، فنشير إلى أن الاتفاق النهائي لتشغيل سد النهضة الإثيوبي المشار إليها ليس إلا مثالا صارخا لذلك الطرح.

التفاوض أسلوب معقد من أساليب التسوية السلمية، فهو ليس أسلوباً بسيطاً أو واضحاً في آلياته وأشكاله، مع ذلك، فإن المدى الذي تصل إليه تعقيداته يتوقف على طبيعة القضايا محل النزاع، وطبيعة العلاقة بين الطرفين المتنازعين، ومدى توافر خيارات أخرى لدى كل منهما لحل النزاع، إضافة إلى الظروف الإقليمية والدولية المحيطة بطرفي المشكلة، وهي الظروف التي تدفع نحو ضرورة اتباع أسلوب التفاوض أو غيره لحل النزاع، فرغم أن البند العاشر من اتفاقية إعلان المبادئ لسد النهضة عام 2015 تشير إلى آليات أخرى يمكن لأطراف الاتفاقية اللجوء إليها لتسوية نزاعاتهم، لكن تؤكد للجميع أن المفاوضات الدبلوماسية سواء المباشرة بين الأطراف أو برعاية من منظمة دولية مثل منظمة الاتحاد الإفريقي هي الوسيلة التي ما فتئت الدول الثلاث تستحسنها بين سائر الوسائل المنصوص عليها في البند العاشر المشار إليه سالفا.

لقد تميزت المفاوضات عن سائر الوسائل السلمية لتسوية النزاعات الدولية بعديد المزايا التي جعلت الدول تفضل اللجوء إليها لتسوية نزاعاتها، وليس بغريب أن تحتل المفاوضات الصدارة في ترتيب وسائل التسوية السلمية للمنازعات الدولية نظريا وعمليا في الممارسة الدولية، وفق الترتيب الذي أوردته المادة 33 من ميثاق منظمة الأمم المتحدة، فقد اعترفت الدول ذاتها بهذه الحقيقة في كل المناقشات التي جرت حول التسوية السلمية للمنازعات الدولية، فقد أشار عدد معتبر من الدول صراحة إلى أن: "المفاوضات المباشرة تعد الوسيلة الأساسية لتسوية النزاعات الدولية، وأن القانون الدولي والممارسات الدولية يؤكدان ذلك".

لقد ازدادت أهمية المفاوضات في الحياة الدولية المعاصرة إلى درجة أن وُصف عصرنا الحالي بعصر المفاوضات، حيث تسيطر المفاوضات على كل مجالات العلاقات الدولية، كما أن المفاوضات تسهم في تطوير القانون الدولي ذاته، فضلا عن نفور الدول من اللجوء للوسائل القضائية لعوامل عديدة، أهمها طول أمد هذه الوسائل مقارنة بالمفاوضات تحديدا، وقد تعرضت محكمة العدل الدولية في مناسبات عديدة لأهمية المفاوضات الدبلوماسية، وقد بحثت المحكمة الدائمة للعدل الدولية عام 1924، بالتفصيل في هذا المبدأ في قضية "امتيازات مافروماتيس" وقررت أنه "قبل أن يكون بالإمكان جعل أي نزاع قضيته إجراء قانونيا لابد من تحديد موضوعه بوضوح عن طريق المفاوضات الدبلوماسية"، واعترفت المحكمة بأن عليها أن تقرر في كل قضية ما إذا كانت قد أجريت مفاوضات كافية قد سبقت عرض النزاع على المحكمة.

لقد اعترفت الدول في العهود القديمة بوجود التزام قانوني بالتفاوض قبل اللجوء إلى استخدام القوة، وهكذا كان مجلس حكماء روما يوفد مبعوثين أو سفراء يعرضون طلبات حكوماتهم على الفريق الآخر في أي نزاع ويطلبون إزالة الظلامات التي تشكو منها روما قبل أن تلجأ إلى الحرب، وقد أكدت مناقشات واسعة ومضنية من قبل الحقوقيين واللاهوتيين في العصور الوسطى حول تحديد طبيعة الحرب العادلة وضرورة التفاوض قبل موافقة الجميع على استعمال القوة.

إن الطابع المتجدد للعلاقات الدولية المتميز بكثرة التكتلات في مختلف المجالات وتعقد العلاقات الدولية وتشابكها وتطورها في المجالات الاقتصادية والسياسية والعسكرية وغيرها، ساعد على ازدهار المفاوضات باعتبارها الأداة المركزية للدبلوماسية، فأضحت المفاوضات تشكل جزءا لا يتجزأ من التعاون الدولي في مختلف المجالات.

لنجاح المفاوضات في تسوية النزاعات لابد من توافر عدة شروط، فالمفاوضات تتأسس على إبداء النية والرغبة من قبل الأطراف في تحقيق اتفاق بشأن المسألة المستعصية والمتنازع عليها، وهذا يفترض وجود الثقة المتبادلة بين الأطراف والأخذ بالحسبان لمصالح بعضها بعضاً، كما تحتاج المفاوضات إلى جو يسوده الهدوء والبعد عن المؤثرات الخارجية، وتجري المفاوضات على أساس التكافؤ بين الأطراف وعلى أساس هذا المبدأ يجب أن تجري مراحل المفاوضات كافة بصرف النظر عن نوعية الخلافات والمسائل المطروحة للبحث والمعالجة.

لقد أكدت محكمة العدل الدولية في قضية المملكة المتحدة ضد أيسلندا عام 1974، على ضرورة مباشرة المفاوضات بحسن نية من جانب أطرافها الدولية، وأن يأخذ كل طرف بعين الاعتبار وبطريقة معقولة حقوق الآخرين ومصالح الدول الأخرى، وتبنت ذات المحكمة أهمية إجراء المفاوضات الدولية بحسن نية وذلك في الرأي الاستشاري للمحكمة عام 1996 بشأن مشروعية استخدام الأسلحة النووية، حيث قررت المحكمة: أن "تتعهد كل دولة من الدول الأطراف بمواصلة إجراء المفاوضات اللازمة بحسن نية عن التدابير الفعالة بوقف التسلح النووي في موعد قريب".

لأجل إنجاح المفاوضات يجب اختيار الزمن والوقت لإجرائها، حيث تكتسي في بعض الأحيان العلاقات بين الأطراف المتنازعة درجات متفاوتة في الحدة، لذلك فإن اللحظة التي يمكن خلالها تخفيف حدة هذه العلاقات هي أكثر لحظة مناسبة لإجراء المفاوضات، ويمكن للمفاوضات أن تكون ناجحة في الفترة التي تشهد فيها وجود علاقات ودية بين الأطراف قبل وقوع النزاع.

يعكس النموذج المصري - الإثيوبي أحد أهم عوامل نجاح المفاوضات الدولية وهو ضرورة عدم تقديم شروط مسبقة للمفاوضات من قبل أي من الأطراف المتنازعة، حيث يشير ذلك المطلب ومن دون تدليل إلى سعي أحد الأطراف لتحقيق مكاسب أحادية الجانب على حساب الطرف الآخر تضر بمصلحته، وفي بعض الأحيان يدل تقديم مثل هذه الشروط على عدم وجود نية صادقة وثقة بين الأطراف، الأمر الذي لا يؤدي إلى بدء المفاوضات أو نجاحها.

تفترض المفاوضات إجراء التنازلات المتبادلة بين الأطراف بغية إنجاز وتحقيق الحل المقبول، وكما يتضح من التطبيقات الدولية العديدة فإنه توجد علاقة مباشرة بين التنازلات المتبادلة ودرجة تحقيق الحل المقبول لدى المتنازعين. فكلما كان التفاهم حول التنازلات المتبادلة أكثر كلما كان الحل مقبولاً أكثر لدى الأطراف المتنازعة، فالتنازلات المتبادلة تفترض الأخذ المتبادل بالحسبان لمصالح الأطراف.

تعتبر المفاوضات أكثر وسيلة من وسائل التسوية التي أوصت بها الجمعية العامة لأطراف النزاع، فقد وجهت الجمعية العامة للأمم المتحدة من خلال القرار 40/ 9 المؤرخ 8 نوفمبر 1985، نداءً رسمياً إلى الدول المتنازعة لفض خلافاتها عن طريق المفاوضات والوسائل السلمية الأخرى، وفي عدد من المناسبات قام مجلس الأمن، بناء على مسؤولياته بموجب الميثاق في مجال تسوية المنازعات بالوسائل السلمية أو لدى ظهور أي حالة يؤدى استمرارها إلى احتمال تعرض المحافظة على السلم والأمن الدوليين للخطر، باتخاذ قرارات يطلب فيها من الدول الدخول في مفاوضات.

تجدر الإشارة إلى أنه يمكن أن يتم تكليف الأطراف المعنية بإجراء مفاوضات بقرار قضائي يُلزمها بذلك، وفي هذا السياق يُشار إلى قضية "صيد الأسماك" عام 1973 التي ذكرت فيها محكمة العدل الدولية ما يلي: "إن الالتزام بالتفاوض ينبثق من ذات الطبيعة الخاصة بحقوق كل طرف من الأطراف، لذا فإن تكليف الأطراف بالتفاوض يعتبر ممارسة ملائمة للوظيفة القضائية في هذه القضية، وينسجم هذا أيضا مع مبادئ وأحكام ميثاق الأمم المتحدة المتعلقة بالتسوية السلمية للمنازعات"، على النحو الذى أشارت إليه المحكمة في قضايا الجرف القاري لبحر الشمال عام 1969".

صفوة القول، أن قرار الرئيس المصري المتقدم باللجوء للمفاوضات للتوصل للاتفاق النهائي لسد النهضة ينبع من التزامات الدول الأطراف باتفاقية إعلان المبادئ لسد النهضة حيث تعد الاتفاقية القانون الخاص والحاكم في هذا الصدد فضلا عن أن السياقين الإقليمي والدولي يتسقان مع خيارات الدول الثلاث في هذا الصدد.