كانت خاطئةً في المنطلقات والقواعد كما في التطبيق، وتبدّتْ غير متناسبة مع حجم الأعباء التي ألقاها الوباء على الجميع. لا يتعلّق الأمر في هذا بملاحظة ما كان من استهتارِ كثيرٍ من حكومات العالم بمخاطر الڤيروس، وسوءِ تقديرٍ لما يحمله في ركابه من احتمالات كارثيّة على الحياة الإنسانيّة والاقتصاد والمقدّرات، فقط، بل يتعلّق بنوع الخيارات التي رسَتْ عليها سياساتُ الدّول تلك في محاربة تفشّي الڤيروس، وتعبئة الموارد في المعركة من أجل السّيطرة عليه ، أو الحدّ من سوء آثاره.

كان الجامع بين سياسات الدّول كافّة هو اللّجوء إلى مقاربةٍ وطنيّة محلّيّة للمواجهة. هكذا كرّت سبحة وقائع هذه المقاربة على المنوال عينه؛ إقفال الحدود القوميّة أو الوطنيّة لكلّ دولة (برًّا ومياهًا وجوًّا)؛ إعلان الأحكام الخاصّة بالطّوارئ الصّحيّة؛ تعبئة موارد الدّولة الاقتصاديّة والصّحيّة والأمنيّة وتسخيرها لمواجهة الوباء؛ اعتماد بڤروتوكولات علاج خاصّة للمصابين بالوباء وتعميمها على مراكزها الاستشفائيّة، الانكباب على الأبحاث والتّجارب السّريريّة للعلاجات في نطاق وطنيّ خاصّ وصرف؛ اتّخاذ قرارات تمديد الطوارئ  لفترات معلومة، أو التّخفيف من الحَجْر الصّحيّ والرّفع التّدريجيّ للإغلاق في نطاقٍ سياديّ ...إلخ.

تصرّفت كلّ دولة بما يقضي به مبدأ السّيادة الوطنيّة ولم ترْهن قرارها، في أيّ شأنٍ يتعلّق بالوباء، بقرار غيرها. ومع أنّ الانتباه إلى السّيادة والقرار الوطنيّ المستقلّ أمرٌ محمودٌ ومرغوب، إلاّ أنّ إنْفَاذَ سياسة مستقلّة في خَطْب جَلَل من نوع جائحة كورونا لم يكن مسْلكًا صحيحًا، ولا كان يُنَاسِب خطورة الوباء وأبعادَه. وهذا ما يفسّر لماذا كانت حصيلة تلك السّياسات الوطنيّة الانكفائيّة، في مواجهة الوباء، متواضعةً حتّى لا نقول باهتة.

المنطق الذي قاربت به الدّول "نازلةً" كوڤيد 19 يوحي وكأنّ الڤيروس مشكلة وطنيّة داخل حدودها، يمكنها – بالتّالي – السّيطرة عليها داخل الحدود تلك وبالإمكانيّات والموارد الوطنيّة المتاحة؛ وأنّه متى حمَت حدودها من الخارج أمَّنَت نفسَها ومواطنيها.

ومشكلة هذا المنطق أنّه لا يلْحَظ حقيقةَ الحقائق، وهي أنّ الڤيروس حالة عالميّة ومتعولمة؛ عابرة للحدود والسّيادات، وتوزِّع تهديدَها على العالم أجمع. لم يكن ممكنًا، إذن، مواجهةُ مشكلةٍ عالميّة عابرة للقوميّات والأوطان بسياسات قوميّة خاصّة. وكان تحدّي الوباء العالميّ يقتضي، حكمًا، نهج سبيلٍ أخرى هي التّضامن الدّوليّ في مواجهته، بالمعنى الكامل للتّضامن بما يفترضه من وجوب التّوافق على برنامجٍ مشترك، على الصّعيد الدّوليّ، في مجال الأبحاث العلميّة لتوفير العلاجات واللّقاحات المناسبة؛ وفي مجال تبادُل الخِبرات الصّحيّة وتقديم المساعدات للبلدان المحتاجة؛ كما في مجال سياسات مواجهة الآثار الاجتماعيّة الفادحة لعمليّة الإغلاق التي طالتِ البلدان كافّة.

ولقد كان يُفْتَرض أن يقع تفعيل المؤسّسات الدّوليّة أكثر قصد مواجهة الوباء؛ الأمم المتّحدة ومؤسّساتها ذات الصّلة بتحدّيات الوباء، مثل "المنظّمة العالميّة للصحّة" و"الفاو" و"صندوق النقد الدّوليّ" وسواها، وأن تُبحث برامجُ العمل الجماعيّ لمواجهته في نطاق أطرها، حتّى يكون ثمّة فعْلٌ تضامنيّ دوليّ ماديّ حقيقيّ. ولكنّ ذلك، من أسفٍ شديد، ممّا لم يؤخذ به أمام تضخُّم النَّزْعات الذّاتيّة الانغلاقيّة لدول العالم، وأمام مسعى القوى الكبرى منها ألى لتّسابق نحو الفوز بالسّبق في اكتشاف العلاج والذّهاب، بالتّالي، إلى احتكار إنتاجه وتسويقه كسلعة مربحة! وحتّى حينما كانت تُطلَق مبادرات رمزيّة لعملٍ دوليّ تضامنيّ، كالتي أُعْلِنت في مطلع 2020 لتأمين موارد ماليّة لبحثٍ علميّ مشترك يفضي إلى لَقَاحٍ للڤيروس، كانت دولةٌ كبرى، مثل الولايات المتّحدة الأمريكيّة، تعلن عن رفضها الانضمام إلى المبادرة، والانصراف إلى العمل منفردة!

بمقدار  ما تُطلِعنا جائحةُ كورونا على حقيقة أنّ التّحدّي الأضخم الذي بات يتهدّد الحياة على ظهر الكوكب – بعد التّحدّي النّوويّ – هو تحدّي الأوبئة؛ وبقدر ما تُطلِعنا تجربةُ الإخفاقِ الذّريع في جبْه وباء كورونا بسياساتٍ قوميّة مُقْفَلَة على حدودها، يتعاظم الوعيُ بالحاجة الماسّة والحيويّة إلى عقيدةٍ سياسيّةٍ جديدة مبناها على فكرة التّضامن الدّوليّ الجماعيّ لمواجهة خطر جوائح الأمراض والأوبئة، بما هي جوائح عالميّة عابرة للدّول والأوطان والقوميّات، والحاجة إلى إنتاج الأطر المؤسّسيّة الدّوليّة الخاصّة بها، التي تٌبْنى في نطاقها سياسات موحَّدة مُتَوَافَق عليها ومَحْو آثارها. هذه وحدها الفرصة الممكنة لحماية حقّ البشريّة في حياةٍ ما عاد يمكن تأمينُها بإقفال كلّ مجتمعٍ على نفسه. هذه وحدها العولمةُ النّاجعة.