فرض الأمر الواقع على العثمانيين وأصبح محمد علي باشا هو سيد مصر وحاكمها. راح يهدم أركان الخيبة العثمانية ويصلح في سنوات قليلة ما أفسده العثمانيون في قرون.
منظومة صحية، منظومة تعليمية، تنظيم للزراعة والصناعة والتجارة، بناء علاقات مع الخارج، تأسيس نواة جيش وطني قوي، نمط حياة مختلف عن ذلك الذي فرضه المحتل العثماني على مصر.
ضربة ساحقة تطيح بالمماليك الذين طالما أزعجوا الباب العالي وتقضي على سطوتهم، حملة تضم السودان في عودة لمحاولات توحيد وادي النيل، إخضاع للصعيد وقبائله المتمردة دوما.
والعثماني المتعجرف القابع في الأستانة لم يكن ليعجبه ذلك، فسرعة تبديل محمد علي حال مصر كشفت خيبة العثمانيين وفشلهم.
لأول مرة منذ عهد قايتباي في العصر المملوكي تشهد مصر حاكما قويا نشيطا طموحا متقد العزيمة، فالجندي الألباني البسيط قد صار في سنوات قلائل "عزيز مصر".
على مضض قبل العثمانيون هذا الوضع وهم يتحينون الفرص لإزاحة هذا الوالي الذي صار مجرد وجوده إهانة لهم، ولكنهم مع ذلك حاولوا استغلاله والاستفادة من إمكانياته لصالحهم.
"هلم يا محمد علي باشا أرسل جيشك إلى اليونان لإخماد الثورة" فيرسل محمد علي جيشه ويسحق معاقل الثوار، ولكن هذه المهمة الأخيرة كانت نهاية حالة "التربص" بين محمد علي والباب العالي، وبداية المجاهرة بالعداء الشديد!.
حماقة عثمانية تفسد الانتصار المصري
بعد أن حقق الجيش المصري انتصارا لصالح العثمانيين على ثوار اليونان، أفسدت الغطرسة العثمانية هذا الانتصار وحولته إلى هزيمة موجعة.
فالثورة اليونانية كانت تحظى بدعم أوروبي شعبي ورسمي من عدة جوانب، منها رغبة القوى الاستعمارية في تمزيق الجسد العثماني المريض وإنهاء وجوده في أوروبا، ومنها التعاطف الشعبي مع فكرة "ثورة الشعوب" منذ مرحلة ما بعد الثورة الفرنسية خاصة مع إيمان هؤلاء بعدالة القضية اليونانية، ومنها طمع الروس والفرنسيين والإنجليز في حيازة ثقل في شرق المتوسط.
ولم يتأخر محمد علي عن إجابة أمر السلطان العثماني التدخل في اليونان، فأرسل حملات كانت الأولى مكونة من 26 سفينة أخمدت ثورات كريت وقبرص ورودس، ثم ثانية من 14 سفينة أقرت الأمن في كريت ومحيطها، فثالثة بقيادة ابنه إبراهيم باشا مكونة من 17000 من المشاة و700 من الفرسان وعدد كبير من المدافع والبنادق، وساندها بأسطول من 51 سفينة حربية و 46 سفينة نقل، التقت بالأسطول العثماني الذي كان يقوده قائد متغطرس اسمه خسرو -كان من أعداء محمد علي باشا- حاول أن يفرض قيادته لكنه عُزِل لسوء إدارته.
وبينما كان إبراهيم باشا بن محمد علي باشا يحقق الانتصارات بيد ويتفاوض محاولا إقرار السلام بيد أخرى، كان الجانب العثماني متصلبا في رفض أية حلول سلمية ومصرّا على الخضوع اليوناني الكامل للباب العالي ومتشددا في رفض مبدأ التفاوض هذا رغم أن الحلفاء- روسيا وفرنسا وإنجلترا- لم يكونوا على قلب رجل واحد، ففرنسا تحاول تحاشي الاصطدام بمصر وإيذاء صداقتها بمحمد علي، وإنجلترا تحاول مضايقة العثمانيين من ناحية وحماية مصالحها معهم من ناحية أخرى، والروس يرحبون بأي ضغط على إسطنبول ولكنهم يتحفظون في مبدأ المجاهرة بدعم ثورة شعب على حاكمه خشية انتقال العدوى إليهم.
أي أن بعضا من البراعة السياسية كان ليكفي لـ"دق إسفين" بين الحلفاء أو على الأقل إطالة نقاشهم لحين تدعيم الموقف العثماني-المصري على الساحة اليونانية.
ولم يجد الحلفاء إذن سوى حشد أساطيلهم في مواجهة العثمانيين والمصريين، وإنذارهم بالانسحاب أو القتال.
وازداد الإصرار العثماني على الدخول في المعركة فورا دون عمل أية حسابات جدية لفارق القوة أو للنتائج المحتملة، فكانت النتيجة هي إقحام الأسطول المصري في مذبحة بحرية في البحر الأسود نفذتها سفن إنجلترا وفرنسا وروسيا لتدمر القوة البحرية للأسطولين العثماني والمصري، بل وتقدم الأدميرال البريطاني بسفنه من الإسكندرية وهدد بتدميرها إذا لم يأمر محمد علي ابنه بالانسحاب، وتدخل قنصل إنجلترا في مصر لإقناع الباشا بقبول وقف القتال، فانسحب إبراهيم باشا بما تبقى من جيشه حفظًا له من الفناء، بعد أن خسرت مصر 30000 جنديا وتكبدت نحو 750000 جنيها (وهو مبلغ فادح بمقاييس هذا العصر) وأسطولها بالكامل.
وأبدى كلا من محمد علي وابنه إبراهيم باشا التجلُد أمام الكارثة، وراح الوالي العنيد يعيد تأسيس أسطوله، بينما الباب العالي يرغي ويزبد ويلوم واليه أنه قد انسحب من اليونان دون أوامر سلطانية.
وما زاد من تورم الأنف العثماني الذي كان شامخا أن الأوروبيون قد أدركوا أن مصر قد صارت لها القوة الكافية لتتفاوض معها أوروبا لا كولاية عثمانية ولكن مفاوضة الند للند، فعقدت معاهدة مع محمد علي جرى فيها تبادل الأسرى وعودة السفن المصرية المحتجزة وإقرار السلام بين الجانبين والسماح لقوة مصرية صغيرة بالمرابطة في اليونان لحفظ الأمن.
أي أن مصر رغم خسارتها أسطولها في نافارين كانت قد فازت بمكانة دولية طال انتظارها لها، بينما كانت الخيبة العثمانية حديث الأفواه!.
شرارة الحرب
في ذلك الوقت كان محمد علي يطمع في مد نفوذه للشام ويطالب العثمانيون بمنحه الولايات الشامية، ويتوقع ذلك كمكافأة طبيعية لدوره في الجزيرة العربية أو في البحر المتوسط، ولكن العثمانيين رفضوا طلبه بشدة وراحوا ينظرون لما وراء هذا المطلب بريبة.
كان الباشا يطمع في الشام لعدة أسباب، فمن ناحية، ثمة ارتباط تاريخي بين مصر والشام باعتبار أن كلاهما درع للآخر، وهو أمر أدركه محمد علي- وينم عن حسن قراءته للمشهد الجغرافي التاريخي- ومن ناحية ثانية فالشام غنية بالأخشاب اللازمة لبناء أسطول كبير قوي، ومن ناحية ثالثة فموانئ الشام مع موانئ مصر تكفل للمتحكم بها خلق ثقل يعتد به في شرق المتوسط، ومن ناحية أخرى فإن ضم الشام لمصر بعد أن توسع محمد علي في السودان والجزيرة العربية يضمن له إقامة إمبراطورية عربية شرقية يطمح لها بشدة.
ورغم إعراب محمد علي عن شعوره بـ"الجحود العثماني" لأياديه البيضاء على الدولة، إلا أنه من المؤكد أنه كان يتوقع هذا الرفض لضم الشام إليه، فالعثمانيون يدركون عاقبة ذلك، وهو يدرك أن رفضهم سيكون مقدمة للحرب، ولكن كان لابد من أن تكون حربه تلك ذات غطاء شرعي.
واستغل الباشا الأريب قيام بعض العائلات الفلاحية المصرية بالنزوح إلى الشام هربا من فرضه التجنيد الإجباري على شبابها، فراسل عبد الله باشا والي الشام وطالبه برد تلك العائلات إلا أن عبد الله باشا قد أجابه بالرفض مبررا ذلك بأنهم يمارسون حقهم كرعايا للسلطان في التنقل بين ولايات الدولة كما يشاؤون.
وكأنما كان "عزيز مصر" يتوقع هذا الرد بل وينتظره، فسارع باتهام عبد الله باشا بابتزاز التجار المصريين في الشام وسرقة أموالهم، والتأخر في دفع ديونه لمصر، وتشجيعه تهريب البضائع من الجمارك المصرية، وبناء عليه فقد أعلن الحرب.
وبأوامر الباشا، خرجت من مصر حملة برية من 9000 جندي مصري و1000 جندي من البدو وعدد من المدافع بقيادة إبراهيم كجك- ابن أخي محمد علي باشا- وحملة بحرية من 40 سفينة تحمل 7000 جندي مع مدفعية الحصار، وعلى رأس كل هؤلاء ابن الباشا العتيد: القائد إبراهيم باشا.
وعلى الطريق التاريخي القديم الذي حمل اسم "طريق حورس" في زمن ملوك المصريين القدماء، ذلك الطريق الذي مر منه تحتمس الثالث ورمسيس الثاني وابن طولون وصلاح الدين وقطز وبيبرس وقلاوون، اهتزت الأرض لأول مرة منذ قرون تحت أقدام جند مصر وهم ينذرون الغازي أنه قد آن له أن يُغزَى في عقر داره!.