وليس بين المعنيَيْن هذيْن من خيوط اتّصالٍ سوى في أنّها، في الحاليْن، توقُّفٌ عن القتال. أمّا في ما عدا ذلك فهي بالمعنى الثاني لا تكون دائمة، أو لا يُشْتَرَط فيها أن تكون كذلك، كما لا يتولّد منها يقينٌ بنهايةٍ حاسمة للمخاوف والاحترازات.

المعنى الأوّل، للسّلم، معنًى فلسفيّ أو، قلْ للدّقة، ينتمي إلى فلسفة الأخلاق ومشتقّاتها من نزعات فلسفيّة (إنسانويّة وبيئويّة ...). وهو معنًى يجد مادّتَه المرجعيّة في الفلسفات الروحانيّة الشرقيّة (الهنديّة خاصّةً)، وفي تعاليم المسيحيّة الأولى (قبل المُرَوْمَنَة) وتيّارات الزّهد والتصوّف في الأديان والثقافات. وتقوم في قلب هذا المعنى فرضيّةٌ – بل يقينيّةٌ – تأسيسيّة هي أنّ الإنسان خيِّر بطبعه، ويملك أن يغالب الشرّ فيه برياضة النفس على الخير وتحقيق السّلام الداخليّ، وكَبْت الغرائز وقهرها، وتغليب قوى العقل والحدس على قوى الشهوة والغضب. ومع ما في هذا المعنى من مثاليّةٍ وطوبويّة، ظلّ يجد مَن يتوسّله في الدّعوة إلى نبذ الحرب وطلب السّلم، عبر التاريخ، ومن يُجرّب أن يحوّله إلى برنامج عمل حركيّ؛ على ما فعلت ذلك حركات السّلم ومناهضة الحرب، بين الخمسينيّات وأوائل الثمانينيّات من القرن الماضي، والحركات البيئويّة منذ عقودٍ ثلاثة. وأكثرُ من ألْهم المحدثين والمعارضين، من دعاة السّلام، بهذه الفكرة هم فلاسفة النزعة الإنسانيّة (الإنسانيّون) والفيلسوف الألمانيّ إيمانويل كَنْت في دفاعه عن السّلم الدائمة.

والمعنى الثاني، للسّلم، معنًى سياسيٌّ (وقانونيّ). وهو معنًى يَلْحَظ الحاجة إلى تحكيم قواعد أخرى في المنازعات غير قاعدة القوّة (المسلّحة)؛ مثل التفاوض والتسويّة والاتّفاق درءًا للاقْتِتال على ما يمكن التفاهُم عليه. وما من شكٍّ في أنّ للمعنى هذا منطلقًا مُضْمَرًا؛ هو أنّ المصلحة قد تبرّر النزاع، وبما أنّ المصالح متضاربة، وأحيانًا متضادّة متقاطبة بين القوى، يقود ذلك – حكمًا (إلى الصّدام بينهما. على أنّ القائلين بالسّلم، بالمعنى هذا، يدرِكون أنّ في الوسع تفادي الحرب أو إنهاؤُها – إنْ وقعت – من طريق التفاوُض على المسائل الخلافيّة، والتفاهُم على تحقيق المصالح بالتراضي، خاصّةً حينما يضعون في ميزان المُقايسة كلفة كلٍّ من الخياريْن، والخسارات والأرباح المتولّدة من تجريب كلٍّ منهما؛ الأمر الذي يعني، أيضًا، أنّ دعواهم تَلْحَظ كيف يمكن للحرب – المراد بها تحقيق المصالح – أن تصبح هي نفسُها، في لحظةٍ منها، وسيلةً للإضرار بمصالح من يخوضها.

من النافل القول إنّ القائلين بالمعنى الأوّل للسّلم متفوّقون، أخلاقيًّا، على القائلين بمعناها الثاني؛ لأنّهم ينزعون الشرعيّة عن الحرب والعدوان، ويضعونها في خانة أفعال الشرّ التي تٌفصح عن الوحشيّ والحيوانيّ في الإنسان. ولكن مشكلة هؤلاء، أنّ مفهومهم للسّلم هذا مفهومٌ غيرُ قابلٍ للإنفاذ والتحقيق بل، قل، إنّه مستحيل أمام حقيقة أنّ الحرب ملازِمةٌ للصراع بين الناس على المصالح. لِنَقُل إنّه لا يعدو أن يكون مفهومًا مثاليًّا طوبويًّا، من دون قدْحٍ منّا، أو حكمٍ معياريّ، في المثاليّة واليوتوپيا اللتيْن تقترنان بغايات عليا يُنظر إليها، في العادة، بوصفها ما ينبغي تحقيقُه، أو بوصفها موضوعَ فعْلِ الواجب. أمّا القائلون بالسّلم في معناها الثاني فليسوا مجرَّدين من الأخلاق جملةً، كما قد يُظنّ، وإنّما هُم مشدودون – بالأحرى – إلى أخلاقيّات السّياسة وقيمها. نحن، في السّياسة، إنّما نوجد في عالم الإمكان، في عالم الممكنات؛ وإنهاء الحروب بالتسويات (هو) ممكن من هذه الممكنات، أمّا إنهاء ظاهرة الحرب من التاريخ فيقع في دائرة المستحيلات لأنّ الحروب تدور مع المصالح، وستظلّ ما ظلّت المصالح، وإنْ كان في المُكْن التقليل منها والتضييق على من يسعى إليها ومعاقبتُه من المجتمع الكونيّ.

في النظرة إلى السّلم نحن، إذن، أمام موقفيْن: موقف فلسفيّ – أخلاقيّ محكوم بفكرة الواجب، وموقف سياسيّ محكوم بفكرة الممكن. إذا كان الأوّل يتفوّق مبادئيًّا، فلأنّه يسجّل نفسه للتاريخ من دون أن يَظْفر بتحقيق نفسه في واقعٍ ماديّ. أمّا الثاني فمتفوّقٌ في واقعيّته؛ الواقعيّة التي تجعله قابلاً لتحقُّقٍ ماديٍّ في التاريخ الإنسانيّ، وعلى رفع الكثير من المعاناة عن المنكوبين بالحروب.