لقد شجع انتصار اليمين في أمريكا وبريطانيا القوى اليمينية الأخرى في أنحاء العالم على التطرف أكثر ومنحها الأمل بأن تصل إلى السلطة وتمارس المزيد من التعسف والتطرف.

ففي هنغاريا وبولندا، مثلا، اليمين هو الذي يحكم البلدين ويتحالف مع قوى اليمين في بلدان أخرى، بما فيها بريطانيا وأمريكا.

وفضّل الرئيس دونالد ترامب أن يزور بولندا بين دول أوروبا في بداية رئاسته لأنه يحظى بتأييد حكومتها، بينما أجل زيارته لبريطانيا عامين بسبب معارضة البريطانيين لها، وعندما قام بها اضطر للتنقل بطائرة هليكوبتر بسبب المعارضة الشعبية لسياساته اليمينية.

النزعة اليمينية هي نزعة بدائية يرفض المبتلون بها التحليل النقدي للذات بل يعيدون الأشياء إلى أنماط أولية تلقي باللائمة على الآخر المختلف فيما يتعلق بالمشاكل والصعوبات التي يعاني منها المجتمع.

ويفسر علماء الاجتماع النزعة اليمينية بأنها عبارة عن رغبات عدائية متأصلة عند بعض الناس وهم ينتظرون الفرصة المواتية لتنفيذها.
وهناك حسب علماء الاجتماع، 3 مكونات لعملية اتخاذ القرار عند الإنسان، الأول هو المكون المعرفي (cognitive) الذي يبني عليه الفرد قراره ويعتمد على مدى معرفته بالموضوع المعني، والتي قد لا تكون وافية أو كافية لتشكيل رأي صائب.

أما المكون الثاني فهو العاطفي (affective) الذي تقرره عواطف الإنسان التي تشكلت عبر السنين، وربما في سن الطفولة، وهذه العواطف قد تكون مرتبطة أيضا بالعامل الأول، أي بمعرفة الانسان (القاصرة) بالأشياء التي يحبها أو يكرهها، وقد تكون معرفته متأثرة بأهوائه، فالمعرفة لا تنفع إلا أصحاب العقول المحايدة الناقدة، أما المتعصب فهو يبحث دائما عما يتفق مع عصبياته فقط ويهمل الآراء الناقدة لها.

وفيما يتعلق بالمكون الثالث فهو العامل السلوكي  (conative) أو (behavioural) الذي يتركز حول "الميل للقيام بفعل معين، وليس بالضرورة القيام به في الواقع"، أي وجود ميل عند الإنسان لفعل شيء معين لكنه لا يقدم على تنفيذه أكثر الأحيان لصعوبة ذلك عمليا، كأن يكره الاختلاط بنوع معين من الناس لكنه مضطر للالتقاء بهم في الأماكن العامة أو أثناء السفر، فلا يستطيع أن ينفذ رغبته هذه، لكنه يبقى ينتهز الفرصة لتنفيذها حال سنوحها.

وما يساعد على تنامي النزعة اليمينية عند الناس، وهي في العادة نزعة موجهة ضد مجاميع سكانية محددة لاختلافها عرقيا أو دينيا أو اجتماعيا أو طبقيا عن المجاميع الأخرى، هو وجود متنفذين وانتهازيين يأججونها ويستغلونها لأسباب سياسية أو اقتصادية مرحلية دون الاكتراث لتأثيراتها السلبية طويلة الأمد على تقدم المجتمعات.

ولكون الناس الذين يحملون ميلا سلوكيا محددا "محبطين" بسبب عدم قدرتهم على تنفيذ ما يرغبون به في أعماقهم، فإنهم يؤيدون الأشخاص الذين يتبنون هذه الأفكار، علَّهم ينفذونها نيابة عنهم.

وتخلق النزعات اليمينية مضادات يمينية لها في مناطق أخرى في البلد نفسه أو في بلدان أخرى، خصوصا بين أهالي المناطق التي تستهدفها أو تحتقرها هذه النزعات، فهناك من يرى بأن ممارسة مثل هذه الأفكار مشروعة لمجرد أنها سادت في البلد "الفلاني" أو أنها نجحت في تولي السلطة في بلد آخر وأن تقليدها سوف يقود إلى نجاح ما.

كثيرون في بلداننا يبررون تطرفهم وأحكامهم الجاهزة على الغرب مثلا بأن (الغربيين يناصبوننا العداء) وعلينا أن نواجههم بمثل ما يفعلونه تجاهنا، ويستعينون بمواقف اليمينيين لتبرير مواقفهم.

ليس في مصلحتنا مطلقا أن نعادي الغرب أو أي جهة أخرى أو نأخذ الغربيين بجريرة اليمينيين منهم، حتى وإن كانوا في السلطة، لأننا حينئذ سوف نعطيهم المبرر الذي يحتاجونه لإقناع مزيد من الناس بصحة نهجهم العدائي، أي نعطيهم الوقود الذي يحتاجونه للاستمرار في تطرفهم.

إن تطرف (الأقوياء) خطير جدا ويحدث أضرارا غير محدودة، لكنه سيكون أخطر إن واجهه (الضعفاء) بتطرف مماثل لأن مثل هذا التطرف يمده بوسائل البقاء والقوة.

البعض في بلداننا يتبعون عادات غير محبذة، وعندما تحاججهم يبررون ذلك بالقول إن هناك في البلد الفلاني من يمارس عادات مثلها أو أسوأ منها، علما أنهم دائما ينتقدون ثقافة ذلك البلد، لكنهم يجدون مبررا لأفعالهم في بعض ما يسود فيه من ممارسات وأنماط تفكير.

كثيرون ممن يمارسون طقوس وعادات غريبة وضارة، عندما تنتقدهم يحتجون بأن هناك من (يعبد البقر) في البلد الفلاني، وأن هناك من يفعل كذا وكذا في البلد العلّاني، علما أنهم ينتقدون هؤلاء وأولئك.

والحقيقة أنه ليس هناك من يعبد البقر في أي بقعة من العالم، بل هناك سوء فهم سائد بين بني البشر حول الآخر المختلف، فكل مجموعة تعتقد بأنها الأفضل وأن رأيها ومعتقداتها هي الأصوب.

وفي الجانب الآخر، نسمع أيضا مقارنات بيننا وبينهم، و(هُم) على حق و(نحن) على خطأ، أو العكس، وليس معلوما من هم (نحن) ومن هم (هُم)! فنحن أيضا شعوب متنوعة وبيننا التقدمي والمحافظ والتقليدي والعالم والجاهل، والحال نفسها تنطبق (عليهُم).
ينسى هؤلاء المقارنون بأن ثقافات الشعوب مختلفة وأن تقليد الآخرين واستنساخ تجاربهم ليس صحيحا دائما، بل الصحيح هو أن نتعلم من تجارب الشعوب الأخرى لحل مشاكلنا وتطوير حياتنا، متجنبين بذلك إعادة اكتشاف العجلة وإضاعة الوقت والجهد، فليس كل ما لدينا خاطئ ولا كل ما لدى الآخرين صائب، بل كل بني البشر يصيبون ويخطئون والحكمة هي في التعلم من الأخطاء والسعي نحو إيجاد الحلول الناجعة للمشاكل التي تعترض سبيل التقدم وإيجاد أفضل الوسائل لتطوير الحياة وجعلها ممتعة وسعيدة.

عندما يعود الغربيون القهقرى ويتخلون، ولو جزئيا أو مرحليا، عما روجوا له خلال القرنين الماضيين من مفاهيم حقوقية وإنسانية وسياسية مثالية، وما اعتقدناه تفوقا لهم على باقي شعوب العالم، فلن يعد بمقدورهم الآن أن يعطوا دروسا للآخرين في الأخلاق والحقوق والسياسة والتقدم.

فالتمييز بين الناس في بلداننا، لم يبلغ يوما ما بلغه يوما في البلدان الغربية من تعسف وعزل وحرمان. وبعد تجربة دونالد ترامب في أميركا وبوريس جونسون في بريطانيا، اللذين برهنا للقاصي والداني إمكانية اختراق الأنظمة الغربية الراسخة، أصبح لزاما على بلداننا أن تسير بخطى حثيثة لبناء اقتصاداتها وتعزيز الاستقرار بعيدا عن الاعتماد على البلدان الغربية التي لم تعد مستقرة بسبب التفرقة التي أثارتها القوى اليمينية بين الناس في البلدان الغربية نفسها أو في بلدان بعيدة.

لقد أصبح تراجعها محتملا، رغم أن احتمالات تعافيها من هذه المشكلة في المستقبل قائمة ومرجحة لأنها تمتلك آليات راسخة لتصحيح الخطأ.

تراجع البلدان الغربية إنسانيا ليس في مصلحة البشرية، وهو أمر مؤقت لا يمكن البناء عليه، لكن شيطنة الغربيين لمجرد وجود قوى يمنيية بينهم هو الآخر أمر خطير وليس في مصلحة أحد وعلينا أن نحذر منه، حذرنا من توجهات القوى اليمينية.