كثافة السحب المتراكمة من تحتنا بتجانسها وتآلفها كأنها أرض من قطن مُسجى ناصع البياض.. أبت إلا أن تحجب عنا وجه كينيا الناضر بخضرته, الملون بغاباته الاستوائية، والمخطط بتضاريس جباله وهضابه وأوديته الملتوية ..

أطالع من نافذة الطائرة وبصرى في حالة شخوص مستمر يتحين لحظة أن تفترَ السحب ولو قليلا عن تكدسها لتفسح لنا المجال للاستمتاع بالنظر إلى لوحة الطبيعة وهي تتفوق على ريشة أبرع فنان على وجه الارض.

"نحن على مقربة من مطار جومو كنياتا الدولي بنيروبي على مسافرينا ربط الأحزمة استعدادا للهبوط"، هكذا تحدث كابتن الطائرة في ندائه قبل الأخير، وماهي الا دقائق استنفذتها من وراء نافذتي الصغيرة بعمق مستغلا فيها هبوط طائرتنا تحت مستوى السحب لأجول ببصري متفقدا ما كنت أفقده لحظة ممانعتها لنا.

حلقت ببصرى يمنة ويسره لا سجل نظرة الميلاد لهذه المدينة في سجلات ذاكرتي, التواقة إلى التوثيق... وبقيت على هذه الحال حتى هبطت الطائرة بسلام .

"مرحبا بكم في نيروبي الساعة هي الواحدة والنصف ظهرا ودرجة الحرارة 23 درجة مئوية"، هكذا انساب صوت المضيفة مخمليا ملامسا آذان الركاب, بذات طريقة معانقة إطارات الطائرة لمدرج الهبوط.

ويبدو أن هذا حديث مأثور لدى شركات الطيران تعمد إلى أن تقوله عند كل عملية هبوط ولإلقاء كلمات الوداع الأخيرة للمسافرين على متن خطوطها...

رائحة كينيا

ربما هناك كثيرون يوافقونني الرأي في أن لكل مدينة رائحتها الخاصة ونكهتها المميزة.. وكذلك كانت نيروبي.. بهوائها كامل الدسم, ونسيمها المخضب برائحة العشب الأخضر.. ونبتات الأناناس الناشرة أوراقها نحو الشمس وهامات الباباي المنفوشة بخضرتها السمراء.. فالهواء هنا طلق بمعنى الكلمة وليس ثمة سبيل لتلوَثه وبساط الأرض ممتد بخضرته الضاحكة.

التنفس برئة الطبيعة

نيروبي المدينة، التي تعني بلغة قبائل الماسي مكان المياه الباردة وبفضل موقعها على ارتفاع 1660 مترا فوق مستوى سطح البحر جعل منها مدينة تنام وتصحوا على زخات المطر وهبات النسيم الذي وهبها الحيوية والتمييز.

فشوارعها تضج بسكانها وبطبيعتها الخلابة في آن معا.. وتعد رابع أكبر مدينة على مستوى القارة السمراء، بوصفها مركزا تجاريا وسياحيا جاذبا للزوار من مختلف بلدان العالم، وهناك خليط من البشر من سحنات مختلفة وفسيفساء من الوجوه الشرقية والغربية والإفريقية يرتادون طرقاتها وممراتها العشبية بشغف كبير.. انتعاش بدأ على الكل وكأن الطبيعة قد منحتهم نفحة من أكسير حيويتها.. وأصبغت عليهم من أثوابها لبوسا من فرح طروب..

محمية من دون سياج

حان الوقت لنمتطي صهوة الترحال سفرا على الطريق البري من العاصمة نيروبي إلى مدينة قريسا شمال شرقي كينيا فالمسافة تستهلك ثمان ساعات من الزمن.. حزمنا أمتعتنا أنا وزميلي أحمد سعيد ومحمد أجاج في رحلة لا نعرف عنها شيئا سوى أنها طويلة وشاقة.

فقد كان يتوجب علينا أن نقضي ليلتنا هذه في مدينة قريسا لنتحرك في صباح اليوم التالي إلى معسكرات داداب للاجئين الصوماليين التي تبعد هي الأخرى من قاريسا مسافة ساعتين في طريق وعر وغير معبد.

انطلقنا نشق أديم الأرض ونطوي بساطها، غير آبهين بوعثاء السفر ومشاقه لقد وجدنا ما يؤنس وحشتنا ويثير عجبنا على قارعة الطريق.

الزراف يتبختر برقبته المرقطة لايخشى من ملاحقة أحد.. وغزلان تترع في خضرة الأرض وأعشابها بأمن وسلام، وتتقافز صغارها وتلهو بعبثة، مثل صبية يتقاذفون كرة القدم في سوح الأحياء الشعبية، متباعدة البنايات.. ووحيد قرن يقف كالصنم مشدوها وهو يراقب مرورنا سيارتنا السريعة من حوله.

الطريق كله كان أشبة بجولة داخل حديقة حيوان مفتوحة، إنها محمية طبيعية ممتدة لا سياج حولها ولاجدران فاصلة.
فكان ذلك جالبا لدهشتنا التي تلاشت بعدما علمنا لاحقا أن الحيوان هنا يتمتع بحقوق كاملة فالسلطات الكينية قد وضعت قوانين وعقوبات صارمة لمن يتعرض لها بسوء تبدأ بالسجن ولا تنتهي بالغرامة.. فلا يجرؤ أحد ما على ترويعها او مساسها بسوء.

معالم مخضرة

عابروا سبيل كنا على طول الطريق.. وغرباء تتلقفنا أعين الناس بنظراتها الحادة أحيانا والمرحبة أحيانا أخرى عند توقفنا لشراء بعض الأمتعة أو الاستزادة بشيء من الزاد..

عشرات من القرى الريفية عبرناها على عجل لم نلقي لها بالا تحفها الغابات الاستوائية الناضرة وتبدو في غاية الوداعة والصمت..

المدن هي الأخرى لكل منها طابعها الخاص، فذيكا هي أول مدينة استقبلتنا في اتجاه الشمال الشرقي لنيروبي تمتاز ببناياتها العالية ومدنها السكينة الجديدة ومنها إلى كزيمان فقوليبا فكزيوتو ذات المباني الحجرية الصلدة تليها قوتاني مدينة السهل الأخضر المنبسط بزراعته التقليدية.

غير أنه بعد هذه المناطق بدأت تضاريس الأرض تتغير شيئا فشيئا هضاب تعلو بنا على ظهرها تارة ثم سهول تنزلنا إلى بطنها تارة أخرى، وتشق الأودية طريقها عبرنا بتقوساتها وانبعاجاتها المتهدمة ذات الوجه الصارم.

منظر يثير الحواس ويبهرك بجماله وأن تطالع مع ذلك السحب وهي تغازل خضرة الأرض المترامية بين عينيك سيما عندما تمر بمنطقة موي ينجي  التي تحيطها المرتفعات من جهات ثلاث ومنها إلى قوني قرية الجبل والشجر والهضاب.. ليس هناك من شئ على الطريق إلا ويثير فيك الشعور بروعة الطبيعة وجمالها الخلاق.

هواجس الليل

لكن متعة المشاهدة لم تستمر طويلا فقد بدأ الليل يرخي سدوله المظلمة ليخفي معالم كل شئ حولنا، ويكشف الستار عن مشهد آخر في السماء هو غاية في المتعة والجمال..

فالأفق أمامنا قد تلألأ بنجومه البازغات مشهد محرك للشجون وباعث للأشواق, وداع للتأمل والانكباب على أحوال النفس ومقاصدها..

أخيرا وصلنا إلى مدينة قاريسا في منتصف الليل وكل شئ كان في سبات عميق .. حملنا امتعتنا الكثيرة إلى داخل الفندق وفُكر كل واحد منا منهمك في المهمة التي جئنا من أجلها وقطعنا هذه المسافات الطويلة لانجازها, بيد أن مشاهد الطريق وتفاصيلة المتنوعة جعلتنا نفكر بعمق أكبر في أن إفريقيا لاتزال تحتاج إلى كثير من الاكتشاف وتسيلط الضوء عليها  فأرضها بكر وحُبلى بالكثير من الدهشة والمفاجآت..

المحطة الاخيرة 

الساعة السادسة صباحا واشعة الشمس على وشك إذابة كل كتل الظلام المتبقية في السماء ممهدة لاشراقة يوم جديد على قاريسا..

المدينة ذات الطابع الإسلامي بمساجدها ذات المنارات القصيرة وسكانها الكينيون الذين ينتمي أغلبهم إلى العرقية الصومالية, تبدت لنا بجفاف أرضها الشاحب بعد أن أكملت الشمس شروقها, هكذا هو معظم الشمال الشرقي من كينيا، فعلى امتداد الطريق الوعر إلى داداب والمدجج بنتوءات سطحه الصلدة تنتشر النباتات والحشائش الصفراء الجافة المناخ شبه صحراوي والأمطار قليلة والسكان في هذه المناطق أغلبهم من البدو الرحل الذي يسعون الى حيث تسعى أنعامهم بحثا عن الكلأ والمراعي, هم في ذلك مثل ركب يثق كثيرا في حاديه الذي يدرك مسارت المشي, وطرق الوصول.

ساعتان قضيناهما في إهتزاز مستمر داخل المركبة التي تقلنا الى معسكر داداب.. اهتزاز افقدنا متعة السفر وجعلنا نصب جم تركيزنا على وعورة الطريق بدلا من إطلاق البصر إلى المشاهد من حولنا حتى انتهى بنا المطاف إلى داداب.. وداداب هذه قصة أخرى من قصص الصراع ما بين الأمل والمعاناة صراع من أجل البقاء.. فصولها مثخنة بجراح مأساة انسانية عميقة لن تنتهي غدا ولا بعد غد ملخص القول أن داداب هي اختبار حقيقي لضمير الانسانية جمعاء..