لم يكن ظهور المعارض المالي الكبير الإمام محمود ديكو في رسالته المصورة بالفيديو بتاريخ 22 ديسمبر 2025 مجرد حدث إعلامي عابر، بل جاء الخطاب الذي ألقاه بلغة "الفلاني" بمثابة "صافرة إنذار" سياسية في بلد أُغلقت فيه الحياة الحزبية بمرسوم، وتحول فيه الأمن إلى المعيار الوحيد للشرعية.
ففي توقيت تتعرض فيه العاصمة باماكو لضغوط اقتصادية خانقة بفعل تكتيكات الجماعات المتشددة، خرج "عراب السياسة المالية" من منفاه في الجزائر ليمنح غطاءً معنوياً لكيان معارض وليد هو "ائتلاف القوى من أجل الجمهورية" (CFR)، واضعاً السلطة العسكرية أمام اختبار مزدوج: السيطرة على الشارع، وتأمين رغيف الخبز والوقود.
عودة "العراب" وتحدي الفراغ السياسي
لا تعمل المعارضة المالية اليوم داخل برلمان طبيعي أو عبر أحزاب قانونية، بل تتحرك في "فراغ سياسي مقصود" منذ قرار السلطات الانتقالية حل جميع الأحزاب والجمعيات السياسية في 13 مايو 2025.
وفي ظهوره الأول، قدم ديكو نفسه داعماً لمسار "إنهاء الوضع الراهن"، متبنياً خط الائتلاف الجديد الذي يدعو لعودة النظام الدستوري وفتح حوار وطني يشمل حتى خصوم الدولة المسلحين.
لكن خطابه حمل تصعيداً مبطناً حين تحدث عن "إجراءات أمنية مشددة واستهداف لمناصريه"، ما يوحي بأن الصراع قد ينتقل من الغرف المغلقة إلى معركة "ضبط الشارع".
معارضة "بلا لافتات": تكتيكات البقاء
أمام تفكيك المجال الحزبي، يجد الائتلاف الجديد (CFR) نفسه مضطراً لابتكار آليات عمل غير تقليدية تقوم على مسارين:
الرمزية الدينية والمدنية: استغلال الثقل الروحي لشخصيات مثل "ديكو" لتعويض غياب الهياكل القانونية.
الشبكات الخفية: الاعتماد على لجان وروابط مهنية تعمل "تحت الرادار" وبصمة منخفضة لتجنب الملاحقات الأمنية. ويطرح الائتلاف مقاربة جريئة وحساسة في آن واحد، تتمثل في "الحوار مع الجماعات المسلحة"، بما فيها حركات الشمال وبعض الفصائل المتشددة، كطريق وحيد لخفض الكلفة الأمنية الباهظة التي تستنزف الدولة.
"حرب التجويع": المتشددون يعيدون تعريف المعركة
الخطر الأكبر الذي يواجه السلطة العسكرية ليس سياسياً فحسب، بل هو "حرب استنزاف" اقتصادية.
فمنذ خريف 2025، غيرت الجماعات المتشددة تكتيكاتها من الهجمات المباشرة إلى "حرب الطرق"، عبر فرض حصار على طرق الإمداد واستهداف قوافل الوقود والسلع.
هذا التحول ضرب العصب الحيوي للعاصمة، وتسبب في أزمات وقود وارتفاع جنوني في الأسعار، مما ينسف السردية الأساسية للنظام: "الشرعية مقابل الأمن". فإذا تدهور الأمن والاقتصاد معاً، يفقد الحكم العسكري مبرر وجوده، وهو ما تراهن عليه المعارضة.
عقدة الشمال: أزواد والجزائر
تتحرك المعارضة فوق رمال متحركة، خاصة في ملف الشمال (أزواد) الذي عاد للاشتعال بعد إعلان السلطات إنهاء "اتفاق الجزائر 2015". هذا الملف يضع أي بديل سياسي أمام معضلة:
خيار التهدئة: قد يفتح نافذة حوار مع الشمال، لكنه يعرض المعارضة لاتهامات "التفريط في السيادة".
خيار التصعيد: قد يرضي النزعة القومية في الجنوب، لكنه يضمن استمرار الاستنزاف العسكري. وتزيد التوترات الدبلوماسية مع الجزائر (التي وصلت لتبادل حظر الطيران) من تعقيد المشهد، حيث لم تعد الجزائر مجرد وسيط، بل طرفاً مؤثراً في معادلة الاستقرار.
سيناريوهات المستقبل: بين التسوية والانفجار
في ظل هذا المشهد المعقد، ترتسم أربعة سيناريوهات لمستقبل الصراع في مالي:
- انتقال تفاوضي اضطراري تحت وطأة الضيق المعيشي وطوابير الوقود، قد تضطر السلطة للقبول بـ"صفقة انتقال محدودة" مع حكومة تكنوقراط، مستخدمة ديكو والائتلاف الجديد كـ"مظلة اجتماعية" لامتصاص الغضب، مقابل جدول انتخابي واقعي.
- القبضة الأمنية وتفكيك المعارضة أن تعتبر السلطة تحركات ديكو تهديداً وجودياً، فتتجه لمزيد من القمع والاعتقالات غير المعلنة، مستفيدة من غطاء "حالة الحرب". هذا السيناريو قد يدفع المعارضة للعمل السري الكامل، مع مخاطر انقسامها الداخلي.
- الهروب إلى الأمام (تسوية أمنية) محاولة التحالف الحاكم استعادة الهيبة عبر عمليات عسكرية واسعة لفتح طرق الإمداد، مدعوماً بسردية "السيادة" وتحالف دول الساحل (AES). لكن نجاح هذا السيناريو مشكوك فيه إذا استمر الشلل الاقتصادي والخدمي في العاصمة.
- التصدع من الداخل في ظل الضغط المزدوج (الأمني والاقتصادي)، قد تظهر خلافات داخل المؤسسة العسكرية نفسها حول إدارة الأزمة، ما يفتح الباب لتغيير من داخل النظام أو انقلاب يطيح بالقيادة الحالية لصالح وجوه جديدة مستعدة للتفاوض.
الخلاصة: تحاول باماكو الاحتماء خلف درع "السيادة الإقليمية" وتحالف دول الساحل، لكن الدروع العسكرية لا تطعم الجياع ولا تملأ خزانات الوقود.
لقد وضع ظهور ديكو الجميع أمام حقيقة صعبة: المخرج العسكري وصل إلى طريق مسدود، والحل السياسي -رغم مرارته- قد يكون الخيار الوحيد المتبقي قبل الانهيار الشامل.