تحت أشعة حارقة وضعت سيدة حقيبة ملابسها وبدأت تمسح العرق الذي تجمع على جبينها. كانت ترتدي كسوة سوداء تكشف عن ذراعيها وساقيها. تبادلنا تحية عفوية، فسألتها ماذا تفعل وسط الصحفيين على مقربة من مسجد (دار الرعاية الإسلامية) في منطقة فينسبري شمالي لندن.

تنهدت السيدة فقالت: "أنا اسمي ماري فان دير زيل، نائبة رئيس جمعية النواب اليهود البريطانيين".

كانت علامات تعب السفر بادية عليها. استرسلت تقول: "لقد جئت من مدينة برادفورد لأعبر لإخوتي المسلمين عن عزائي في الفقيد الذي قتل الليلة الماضية في عملية الدهس. اليوم نحن نأتي للتضامن مع المسلمين، وغدا حين يتعرض أحد كُنُسنا لهجوم لا قدر الله، سيأتي المسلمون للتعبير عن التضامن معنا. فكلنا على متن سفينة واحدة".

لم تكن ماري وحدها التي جاءت لمواساة ضحايا مسجد (دار الرعاية الإسلامية). بل حجت إلى عين المكان حشود من رجال الدين اليهود والكاثوليك والإنجليكانيين.

صاح شاب جزائري من أبناء منطقة فينسبري بارك: "بارك الله فيكم. أخيرا تذكرتمونا. أتمنى أن لا يتخلى السياسيون عنا في هذه المحنة كما فعلوا في حريق برج غرينفيل".

على شاشة وضعها فريق تصوير إحدى القنوات الإخبارية الأميركية ظهرت رئيسة وزراء بريطانيا تيريزا ماي أمام مكتبها، لتقول في بيان صيغ بعناية شديدة عقب اجتماع لجنة الطوارئ الحكومية المعروفة اختصارا بـ(كوبرا): "لقد قررنا زيادة أعداد الشرطة المكلفة بحماية المساجد في الفترة التي تسبق الاحتفال بعيد الفطر".

ما إن أكملت ماي كلمتها حتى سرت حركة غير طبيعية وسط مصوري القنوات الإخبارية الموجودين في شارع سيفن (سيسترز ك) الذي شهد الاعتداء.

بدأ اسم زعيم حزب العمال المعارض جيريمي كوربن يتردد على الألسن. وفجأة ظهر كوربن محاطا برجلي دين مسلمين، وآخرين مسيحيين من طوائف مختلفة، وحاخاما يهوديا.

تحدث إمام مسجد الرعاية الإسلامية عن الإرهاب وضرورة التصدي الجماعي له، مذكرا بأن المسجد إياه شهد، الأحد، اجتماعا حضره ممثلو أديان مختلفة تخليدا لمرور عام على مقتل النائبة في البرلمان جو كوكس على يد قومي إنجليزي عنصري متطرف.

جو كوكس سيدة يهودية العقيدة، وكانت من أشد أعضاء مجلس العموم دفاعا عن فتح أبواب بريطانيا لللاجئين السوريين وغيرهم ممن كانوا في مخيم (الأدغال) بمنطقة كاليه الفرنسية.

ربما تناهى إلى علم تيريزا ماي وجود كوربن في منطقة فينسبري، فهرعت مباشرة من مكتبها في 10 داونينغ ستريت نحو مسجد فينسبري بارك المحاذي لمسجد (الرعاية الإسلامية).

كانت لهذا المسجد في الماضي سمعة سيئة. فقد سيطر عليه متشددون في مطلع القرن الحالي وأصبحوا يبثون داخله وفي محيطه خطابات كلها كراهية وتحريض على أتباع الديانات الأخرى.

ومازال سكان الحي يتذكرون أبا حمزة المصري المسجون حاليا في الولايات المتحدة، لما كان يؤم أتباعه في الصلوات بالشارع المقابل للمسجد حين أغلقته السلطات عام 2003.

من هذا المسجد مر عدد من عناصر تنظيم القاعدة، ومن بينهم زكريا الموساوي الذي كان يفترض أن يكون العضو الـ20 ضمن المجموعة التي نفذت هجمات 11 سبتمبر، وجون ريد الذي حاول تفجير طائرة أثناء تحليقها، باستخدام متفجرات أخفاها في حذائه.

دخلت تيريزا ماي إلى هذا المسجد، بينما لاحقها رجل يبدو من لكنته أنه إيراني الأصل وهو يصيح: "نريد أن تجيبينا عن تساؤلاتنا. لماذا حين يقترف مسلم مثل هذا الفعل تبادرون إلى تسميته بالإرهاب، وحين علمتم أن منفذ اعتاء الليلة الماضية ليس مسلما التزمتم الصمت لعدة ساعات".

ربما لم تسمع يريزا ماي احتجاج هذا الرجل، لكن الذي حدث هو أن جيريمي كوربن قد سمع بمجيئها إلى المسجد، فعاد مهرولا ليدخل المسجد كما دخلته هي، ولكي يبرهن على أنه لن يترك غريمته اللدودة تسجل نقطا سياسية، في هذه الدائرة الانتخابية التي منحته أصواتها قبل 11 يوما من الآن.