تحت عنوان "إرهاصاتُ الوعي ونكساتُه" رؤية ثقافية حول جذور الأزمات السودانية، تدفع دار مدارك للنشر في أبوظبي خلال شهر مارس الجاري بإصدار جديد للكاتب والروائي السوداني، خالد عويس.

الكتاب عبر فصوله الستة هو محاولة للإجابة على أسئلة السودان الكبرى، من خلال سبر أغوار الوعي الذي أفضى إلى الوضع الراهن.
يتساءل الكاتب في مقدمة الكتاب : ما الذي يحدث للسودان؟ ما الذي يجري للسودانيين؟

لماذا انفصل الجنوب؟ لماذا اشتعلت أزمة دارفور؟ لماذا استطالت عهود الشمولية؟ لماذا تراجعت الحياة السودانية في نواحيها كافة بشكلٍ خطير: الأخلاق والعقل والتعليم والخدمة المدنية والخدمات العلاجية والفنون والثقافة والمؤسسات السياسية ودور القانون؟

ويمضي لمزيد من الأسئلة: هل الأزمة في الساسة..أم الشعب؟ أهي "مؤامرة" خارجية تستهدف السودان؟ هل الأمر يتعلق بسوء توزيع السلطة والثروة؟ أم أن المستعمر البريطاني غادر السودان بعد أن زرع فيه "قنابل موقوتة"؟

ثم يقدم في الفصل الأول "مدخل إلى دراسة الأزمة" عرضاً لمشكلات السودان، ليمضي في الفصل الثاني "السوداني التائه" للاقتراح أن المجتمع السوداني المعاصر يعاني قطيعة هائلة مع تاريخه الورائي، ليعمل في الفصل الثالث "محنة الثقافة" والرابع "محنة التدين والتديين" والخامس "محنة التعليم" على البحث معمّقاً في الجذور الثقافية والإجتماعية والدينية والسياسية والتاريخية التي أفضت إلى وعيٍّ يصفه الكاتب بـ"الوعي الزائف" حول الذات والآخر.

أما في الفصل الأخير "خلاصات وإرهاصات" فإنه يطرح رؤية حول طريق المستقبل الذي لابد وأن يمر عبر إصلاح عميق في التعليم وأدوات الثقافة والمؤسسات الدينية من أجل بناء العقل الناقد الباحث المتشكك عوض العقل التلقيني الذي يفترض فيه الكاتب سبباً رئيساً من أسباب الأزمة.

وفي خصوص "التيه السوداني" عن التاريخ، يكتب خالد عويس في الفصل الثاني:
فليجذب أيّ سوداني طفله أو طفلته وليسأل: من نحن؟من أين أتينا؟

التلقين المدرسي والمجتمعي سيستعير لسان الصبي أو الصبية - بل الكهول أيضاً - ليجيب فوراً ودون أي شك "معرفي": عربيٌ أتحدر من صلب العباس رضي الله عنه. ربما تتنوع الإجابات، لكنها لن تتعدى حدود هذا البطن أو ذاك من "قريش".!

وسيهزُّ "السوداني التائه" أو "السودانية التائهة" رأسه أو رأسها علامة الموافقة بل والغبطة، فالصبي الصغير، التائه هو الآخر، أضحى ملماً بأصوله الجالبة للفخر!

كيف لا والمغني السوداني يحصر الفطنة في "العرب" ، والوالدان ذاتهما، بل والمدرسة، وربما من وضع المناهج، ناهيك عن المجتمع، يعتقدون أن "بيعانخي" فتح مصر لأجل سوء معاملة الخيول. نعم، تمّ تلقيننا ذلك، فالملك النوبي، مفرط السذاجة، زجّ بأمته في أتون حربٍ لا تبقي ولا تذر من أجل بضعة خيول عذّبهم ملك مصري! وبطبيعة الحال تغفل المناهج الدراسية السودانية الإشارة حتى إلى اسم ذلك الملك المصري، وهو الملك نيملوت  الذي كان حاصره بيعانخي في هيرموبوليس!

ولنعذر المناهج السودانية، فهي لا تستغرق وقتاً طويلا في شرح تاريخ الحضارة النوبية للتلاميذ.هي مشغولةٌ بما هو أهم: تاريخ الأمويين والعباسيين، وتاريخ أوروبا، وتاريخ العالم بأسره إلا نحن، فنحن لا تاريخ ورائياً لنا، لذا علينا "استلاف" تاريخ غيرنا والمباهاة به. تاريخٌ يخلطُ تماماً بين المقدس والتاريخي، حتى لتصبح فترة كالحة كفترة حكم الخليفة العباسي الأول، أبي العبّاس "السفّاح" مقدسة في ذهن التلاميذ، لا بل ويصبح "السفّاح" نفسه معلماً بارزا يشرح لقادتنا الديكتاتوريين أصول عملهم.

يُمكن للمرء أن يطرح وبجدية تامّة سؤالاً ضخماً دون أن يعنّ له أن يضحك ملء شدقيه: هل من أمةٍ في الأرض، سوانا تتجاهل تاريخها كل هذا التجاهل، وتهينه إلى هذا الحد؟

إسأل أيّ طالب جامعي عن معلوماته حول "كرمة" و"الكُرو" و"مروي". سأتفاجأ إذا لم يجب غالبيتهم بأنه لم يسمع عن "الكُرو" من قبل! تخيّل أن طالباً جامعياً في الصين لا يعرف شيئاً عن سور الصين أو تراث الحكمة والفلسفة الصينية! تخيّل طالباً جامعياً يونانياً يجهل "الأكروبول"، أو إيطاليا لا يفقه معنى "روما" ويعدّها مجرد عاصمة لبلاده!

لكن ذلك يحدث في بلادنا. يحدث تحت أبصارنا، ولا أحد يحرّك ساكنا. كم من السودانيين أخذوا أطفالهم في جولة في "المُتحف القومي" ليعرفوا عظمة أسلافهم؟

إنه "الوعي الزائف" الذي تكرّس على مدى عقود بفضل التلقين المستمر.فتاريخنا وآثارنا - بفضل هذا النمط من التعليم - ترقد في تهامة ونجد، لا في جبل البركل وكرمة!

ويمضي الكاتب للقول: الوعي في هذه الحالة، ربما، أو هو على الأرجح ناتجٌ من تراكمٍ على مدى عقود يجد تمثلاته في أن السودان "خُلقُه الخفة والطيش وكثرة الطرب، فتجدهم مولعين بالرقص على كلِ ترقيع، موصوفين بالحُمق في كلِ قطر.والسببُ الصحيح في ذلك أنه تقرر في موضعه من الحكمة أن طبيعة الفرح والسرور هي انتشارُ الروح الحيواني وتفشيه، وطبيعة الحزن بالعكس، وهو انقباضه وتكاثّفه" على حد مزاعم عبدالرحمن بن خلدون في مقدمته.

ويبدو بن خلدون في نصّه هذا مهذبا في رد سبب وصف السودان أي السود بالخفة والحمق والطيش إلى حرارة الطقس في بلادهم، مقارنةً بيعقوب بن إسحق الكندي الذي يرده إلى ضعف أدمغتهم، الأمر الذي يعارضه ابن خلدون فيه !

تُرى هل تسرّبت مثل هذه الرؤى التي تراكمت عميقاً في الوعي العربي إلى الوعي السوداني؟ الإجابة – على الأرجح -، نعم، وإلا ما سارع الشاعر،ربما، ليكتب: "وإلى العُرب تُنسبُ الفطن"، في مقابل ماذا؟ في مقابل سود يتصفون بالطيش والحمق، إما لعلةٍ في مناخ بلادهم تبعاً لابن خلدون، أو لعلةٍ في تفكيرهم تبعاً للكندي!

ويؤكد: مثلُ هذا النسق الثقافي الذي تحفل به الثقافة العربية يصنعُ المخيّلة العربية في رؤيتها لـ"الآخر"، ويعمل بطريقة الطرد المركزي الثقافي والاجتماعي بشكلٍ متواصل. كيف لا والأجيال العربية منذ قرون طويلة وإلى يومنا هذا ترى في أمثال المتنبي "نموذجاً" للابداع، وفي ابن خلدون "نموذجا" للعقل والبحث الاجتماعي، يكسبهما ما يشبه القداسة في الثقافة، وتنسرب هذه المعاني العميقة من الحطّ من شأن الآخر، من الثقافة إلى الوعي الشعبي. وبالتراكم يضحي هذا ناموساً لا يحيد عنه إلا من ينظر إلى التراث بتشكك نقدي.

ومن الوعي الشعبي العربي، تنسرب ذاتُ المعاني، بدلالاتها وتبخيسها لشأن الآخر إلى الوعي الشعبي السوداني. ولا يكون أمام السوداني، التائه أصلاً عن ماضيه، وغير القادر على التفكير بطريقة نقدية وتشككية تجاه التراث العربي، إلا أن يتخلى كُلياً عن أن يكون "آخر"، ليذوب في المحيط العربي، متشبهاً به، ومنتجاً في الوقت ذاته آليات ثقافية لتوكيد استعلائه على "الآخر"، الذي ليس هو، وإنما "آخر" آخر في داخل وطنه.

هذه الهشاشة في الوعي ما كان لها أن تصبح ضمن مسلماتنا لو كان إلمامنا بتاريخنا إلماما عميقا. ولو كان وعينا أنتج آلياته الخاصة والعلمية في تفكيك وتحليل هذا الوعي الوافد.

ففي مقابل لا علمية ابن خلدون والكندي في توصيف السود بالخفة والطيش، والاختلاف حول أسبابه، هل هو ناتج عن حرارة الطقس أم لعلةٍ في الدماغ، وفي مقابل تعالي المتنبي، كان الوعي السوداني لينتبه قليلا إلى حضارته السوداء التي تقف الشواهد العلمية والتاريخية أدلةً دامغةً على عدمِ صحة ما ذهب إليه ابن خلدون والكندي، وما ذهب إليه المتنبي، بل وما ذهبت إليه الثقافة العربية، بل وحتى الغربية طيلة قرون.

فالمصادر العلمية والتاريخية لدينا متعددة. وكلها تؤكد على عِظم الإنجازات الحضارية التي حققها السوداني الأسود. لكن مثل هذا الأمر لا يجد سبيله إلى مناهجنا التعليمية ولا إلى معارفنا ووعينا. هذا لأن إرثاً ثقيلا يقف حائلا دون ذلك، ولأن حرّاس الفكر والثقافة السودانية، خاصةً بين صنّاع القرار، لا يريدون للسودانيين إلا أن يتثقفوا بالثقافة العربية، وأن يرموا كلّ تاريخهم – قبل دخول العرب إلى السودان – وراءهم، وإن لم يفعلوا فعلت مياه السد العالي وسد مروي!

إن "الدولة السودانية قد ظلت منذ تشكلها أسيرة لحالة سناريةٍ عويصة لم تملك منها فكاكا"  لا ليست الدولة في أطرها السياسية فحسب، وإنما الأنظمة التعليمية والأدب والثقافة الشعبية والمؤسسات الدينية والحياة الاجتماعية !

سنار هي التجلي الأبرز لنفض اليد عن الذات ومحاولة الاندغام في "الآخر" من سنار بدأت رحلة البحث المضنية عن "هوية" نخلعها على جسدنا الحضاري القديم. في سنار جرى الخلط المريع بين "الدين" و"العرق"، وظهرت ارهاصات تحوّل هذا الخلط إلى أيدلوجيا سيُقدر لها أن تحكم الوعي السوداني خمسة قرون وربما أكثر. فـ"نوبات الحنين إلى سنار لا تنفك تعاودنا، كما لا يزال المزاج السناري يلعب بعواطفنا وعقولنا ويدوخها. فكلما رفعت لنا سلطة تبددت قوة دفعها، وخوى وفاضها رايات سنار، لتمد من أجلها الذي أخذ يتقاصر، استجبنا لها، فلبسنا الأخضر المرقع، وقرعنا الطبول، وأخرجنا المسبحات الألفية، وتبعناها راقصين في انتشاء".

إننا بالفعل أسرى للوعي الذي أنتجته وكرسته سنار. ففي عهد الانحطاط هذا عاد السودانيون زرافات ووحدانا للتداوي بالطب التقليدي في أكثر صوره تخلفاً لأسبابٍ اقتصادية ولقناعات راسخة منذ سنار، مفادها أن الأعشاب ومستخرجات الحيوان والكي بالنار علاجٌ لكل مرض. وفيه - في عهد الانحطاط هذا - بات حتى أساتذة الجامعات والأطباء والمتعلمون بشكلٍ عام أسرى للتصوف الطقوسي.

وأثّرت سنار، ليس فحسب في طرزها المعمارية التي لا تتعدى قباب الطين، وإنما أيضاً في الميل إلى تشييد أبنية بطريقة عشوائية غير منظمة، كما هو شأن سنار تماماً. وكلما انحط المجتمع أكثر، سادت البناء فوضى وسيطرت ذائقات جمالية مفزعة كالتي نراها في المدن السودانية حالياً.

بل لا زالت سنار تؤثر حتى في ظاهرةٍ ذميمة كـ"الخفاض الفرعوني"، ويبدو أن سنار منحتها "بركة دينية" لتدمر حيوات ملايين السودانيات على مدى خمسة قرون. هذا على الرغم من أن "الشيخ حمد ود أم مريوم أمر بترك بكارة النساء،وقال: هو السنة". ويعلّق الدكتور يوسف فضل على ذلك: "لعل دعوة الشيخ حمد ود أم مريوم أول دعوة من نوعها"  وهذا يبعث على الظن أن غالبية فقهاء سنار - سوى ود أم مريوم - ساندوا الخفاض الفرعوني لأسباب دينية وأخلاقية.

الكتاب يقع في نحو 420 صفحة ويحوي نحو 333 مرجعاً دعّم بهم الكاتب مقترحاته ورؤاه النقدية حيال الوعي والعقل السودانيين.

خالد عويس، كاتب وصحافي سوداني، أصدر 3 روايات هي "الرقص تحت المطر" و"وطن خلف القضبان" و"كياح". ونشرت له صحف ودوريات سودانية ودولية عدة إسهامات فكرية وبحثية خاصةً حول الأزمات السودانية والإسلام السياسي وحقوق الإنسان.