"قلت أرحل (...) رحلت وجيت في بعدك لقيت كل الأرض منفي"
رحل محمد وردي أسطورة الغناء السوداني ومطرب إفريقيا الأول، الذي فضل المنفي علي مداهنة حاكم أو نبذ أيديولوجياته.
حط "الطير المهاجر" إلي الأبد بعد أن أثري عالم الأغنية السودانية بنحو 300 عمل تغني فيها باللغة العربية ولغة النوبة مسقط رأسه وادخل في ألحانه القالب والألات النوبية مثل الطمبور.
توفي وردي مساء 18 فبراير عن عمر يناهز 79 عاما، منها نحو 60 عاما من الشدو.
النيل والأشجار، الحب والعيون الكحيلة، الوطن والمنفي، كلها تغني بها في كلمات أشهر الشعراء السودانيين مثل التيجاني سعيد و محمد الفيتورى ومحمد المكي إبراهيم و صلاح محمد إبراهيم.
حتي أصبح أسطورة فنية ووطنية ليس فقط في السودان بل في منطقة القرن الإفريقي وأبعد.
في إريتريا، أثيوبيا، جيبوتي، في الصومال وغيرها تسمع أغانيه تنبعث من كل مكان. أما في السودان فصوته كالهواء لا ينقطع عن حياة السودانيين.
و ردي، ذو الميول اليسارية، ارتبط وأغنياته الوطنية بتاريخ السودان، فقد خلد ثورةأكتوبر1964 التي أطاحت بالجنرال إبراهيم عبود فيما عرف با لأكتوبريات وفيها مقطعه الشهير "سندق الصخر حتي يخرج اصخر لنا زرعا وخضرة".
الفنان الذي قال "حائط السجن إتكسر فلا السجن ولا السجان باق" أكد دائما أنه لم يندم أبدا إعتقاله لمدة 18 شهرا.
عام 1971 غني مرحبا بانقلاب هاشم العطا علي جعفر النميري. ثلاثة أيام سحق بعدها النميري مدبري الانقلاب واعتقل كل من أيده بمن فيهم الفنانين وعلي رأسهم وردي.
"إنني إنسان و كل أدمي يكون ضد الديكتاتورية وسأظل أدينها ما حييت"، قال لي وردي ذات مرة.
أيد بقوة الثورة التي أطاحت بالنميري عام 1985 وأتت بأول حكومة منتخبة ديموقراطيا منذ عقود من حكم الفرد الواحد.
لذا إبتأس عندما أطاح الإنقلاب الذي قام به الفريق عمر حسن البشير بمعاونة الزعيم الإسلامي حسن الترابي بالديموقراطية عام 1989.
كان يحي حفلا في ليبيا عام 1990 عندما علم بنية النظام اعتقاله عند عودته إلي الخرطوم، فشد الرحال إلي القاهرة حيث مكث أعوام طويلة قبل أن يذهب إلي الولايات المتحدة الأمريكية ليعالج من الفشل الكلوي.
في نفس العام، والحرب الأهلية تمزق السودان بين شمال وجنوب، شدا وردي في معسكر إيتانج في أثيوبيا حيث قطن 250 ألف لاجىء من جنوب السودان فكان الحفل استراحة وحدت السودانيين.
عندما التقيته في الخرطوم في 2002 لدي عودته بعد 13 عاما في المنفي، كان جلبابه الأبيض يكشف عن زنديه الملفوفان بأربطة طبية لتغطية أثار وخز إبر الغسيل الكلوي. وكان قد رفض ألاف العروض من معجبين سودانيين للتبرع له بكليتهم لإنقاذه، حتي وافق في النهاية علي إحدي هذه العروض.
قال لي وقتها عن ألاف مستقبليه: "أكثر ما أثر في هو أن غالبيتهم من الشباب الذي لم يكن عمره قد تجاوز الخامسة عند سفري".
"كنت معذبا ما بين سعادتي بالعودة وحزني لبقائي بعيدا كل هذا الوقت".
شذي فيصل، 33 عاما تتذكر "لن أنسي يوم عاد وردي. كنت في القسم الداخلي للكلية وممنوع علينا تخطي مواعيد الخروج، لكني تأخرت في المطار في انتظار فناني المفضل واستقبلناه بالورود والزغاريد".
"عندما عدت وجدت المدير ينتظرني غاضبا عند البوابة. بادرته قائلة: وردي رجع فصاح : صحيح؟ ومن فرحته نسي أن يعاقبني"، كما تذكر شذي لسكاي نيوز عربية.
كما استقبلته من عشر أعوام، شذي فيصل كانت في وداع الفنان عند دفنه اليوم في مقابر فاروق في الخرطوم.
"كان الجو باردا في الصباح و لكنني صممت علي الذهاب فقد كان شخصية أسطورية وكان يوحد كل السودانيين شمالا وجنوبا "، كما تقول.
وتضيف، "النساء، علي غير العادة في السودان، شاركن بكثرة في الجنازة الحاشدة التي جمعت شخصيات من كل أطياف المجتمع والتوجهات السياسية في السودان وتقدمهم الرئيس البشير".
"كان جثمانه ملفوفا بعلم السودان فشعرت بحزن شديد وكأنها نهاية مرحلة. شعرت أننا ندفن معه السودان الموحد الذي عرفناه طوال حياتنا قبل انفصال الشمال عن الجنوب العام الماضي".