من عمق إفريقيا قدمت مع القوافل التجارية نحو الجزائر واستوطنت صحرائها، ومن هنا بدأت قصة موسيقى "الديوان" التي استطاعت الصمود والمحافظة على أسرارها وطقوسها رغم مرور كل هذا الوقت، إلى غاية تحولها مع المهرجانات في السنوات الأخيرة إلى ظاهرة تستقطب أنظار عشاق الموسيقى من مختلف مناطق العالم.       

ودَّعت الجزائر يوم الإثنين، أحد أعمدة وقامات موسيقى ورقص الديوان،مقدم إبراهيم برزوق عن عمر ناهز 89 سنة، وقد قضى الفنان الراحل أزيد من 70 عاما من عمره مجتهدا في حقل ترقية وتطوير هذه الموسيقى العريقة.

وقد ساهم ابن محافظة بشار جنوب غرب الجزائر، في تعليم الشباب هذه الفنون الموسيقية والرقص الخاص بالديوان الجزائري، ولم تكن جولاته خاصة بلقاءات محلية فقط، فقد شارك في مهرجانات دولية أعطت لهذا الطابع الفني بُعداً آخر من خلال الاحتكاك بطبوع موسيقية عالمية.  

وامتاز برزوق بلقب "مقدم" الذي يمثل درجة رفيعة لدى محبي طابع "الديوان"، وأيضا للدلالة على المكانة الكبيرة التي كان يحظى بها وسط رواد هذه الموسيقى في ولايته المعروفة بولعها الكبير بهذا الفن الأصيل علاوة على تراثها الموسيقي المميز.

الموشحات الجزائرية

 موسيقى ضاربة في القدم

وللغوص في تاريخ هذه الموسيقى التقليدية التي حافظت على خصوصياتها رغم انتقالها من مناطق إلى أخرى ومع كل الزخم الذي عرفته الطبوع الموسيقية الجزائرية، كان لا بد من استفسار العارفين بهذا اللون الغنائي الغزير بأسراره وألغازه الفريدة من نوعها.

ومع أنه ليس هناك اتفاق بين الباحثين حول تاريخ محدد لظهور هذا الطابع الفني، إلا أنه وفق مصادر تاريخية تعتبر الجمعيات الدينية التي أسسها موسيقيون هي وراء ظهور موسيقى "الديوان" خلال القرن 17.

وحسب بحوث أخرى، فإن هذا الفنّ تكون في رحلات للقوافل التجارية القادمة من السنغال وغينيا مرورا بمالي نحو بلدان المغرب العربي.

رقصات وألوان وطقوس

وتعتبر "الديوان" موسيقى شعبية تسمى أغانيها "الأبراج"، وتتميز بأنها ذات مضمون روحاني، وتستعمل بها عدة آلات لكن أبرزها "القمبري" (آلة موسيقية وترية) التي تسمى عند أهل الديوان بـ"الآلة الروحانية"، إضافة إلى القرقابو (آلة إيقاعية تقليدية) والطبل.

وعلاوة على الرقص الفولكلوري الخاص بهذا الطابع الغنائي، يتزين مؤدو هذا الفن بسبعة ألوان، كلُّ لون يحمل دلالة ورقصا معينا، وتحمل فرقة الديوان أعضاء هم: "المقدم" أكبرهم سنا الذي لا بد أن يكون منتميا لأهل الديوان، أما "الشاوش" مساعد "المقدم" يكمن دوره في تحضير الألبسة واستدعاء الجمهور.

أما "القناديز" فينحصر دورهم في الرقص والضرب على آلات "القرقابو"، بالمقابل لا يمكن تحييد العنصر النسوي الذي يحضر بـ"العريفة" أو "المقدمة" التي تتكلف بالجمهور النسائي.

أخبار ذات صلة

رشيد طه.. مطرب تملك قلوب الجزائريين رغم "الرحيل"
لون غنائي جديد بالجزائر.. ملايين المشاهدات تفتح شهية المجتمع
فن الراي الجزائري يشق طريقه نحو تراث الإنسانية غير المادي
بعد 20 عاما.. ستينغ يمنح الشاب مامي "فرصة العمر"

 تراث شفهي

ويرى الباحث في موسيقى الديوان وأحد العارفين بهذا اللون الموسيقي في مدينة عين الصفراء بالجزائر، محمد رحماني أنه من أجل فهم هذا الفن الأصيل لا بد من معرفة البعد التاريخي والنفسي واللغوي لأهل الديوان وهم عبارة عن سبع قبائل إفريقية.

ويقول رحماني وهو محافظ المهرجان الوطني لموسيقى ورقص الديوان في حديث لـ "موقع سكاي نيوز عربية" إن "هذه الموسيقى ضاربة في القدم، ولديها امتدادات إفريقية، عربية وإسلامية".

ويوضح أن "أهل الديوان يمتازون بالثقافة الشفهية وهم في الأصل يتكلمون ولا يغنون، ولما قدموا إلى الجزائر (أغلبهم بقوا في جنوب البلاد) حملوا معهم تقاليدهم وأغانيهم التي تسمى في موسيقى الديوان بالأبراج المغناة باللغة العربية والهاوسية والبمبرية الإفريقية".

ويشرح الباحث أن "طريقة أهل الديوان حافظت على بقائها من خلال تشييدهم للبيت الصغير وهو الفضاء الذي يحتفل فيه كل يوم خميس، من أجل تذكر أصولهم وأجدادهم، كما أنه لا بد من التوضيح أن ثقافتهم الشفهية مبنية على النية، النوبة والحرمة".

ودعا محمد رحماني الذي يشتغل على جمع وتدوين كل ما له علاقة بطابع "الديوان الجزائري" إلى المحافظة على هذا التراث الموسيقي المحلي، مؤكدا في السياق ذاته أنه لا يقف ضد فكرة الإندماج وإدخال آلات موسيقية جديدة لكن دون المساس بـ"روح وأصالة موسيقى الديوان".

وتشكل المهرجانات الخاصة بموسيقى ورقص "الديوان الجزائري" فرصة لمختلف الفرق والمواهب الشابة للبروز وإظهار سحر هذا الطابع الفني المتوارث، كما أنها تهدف إلى رعاية هذا الفن والمحافظة عليه وتقريب الجمهور منه.  

وكانت مدينة عين الصفراء بمحافظة النعامة بالغرب الجزائري، قد احتضنت الطبعة الـ13 للمهرجان الوطني لموسيقى الديوان في أكتوبر الماضي.