المسافة بين القاهرة وبورسعيد لا تتجاوز 170 كيلو مترا قطعناها في نحو ساعتين أمضيت وفريق "سكاي نيوز عربية" أغلبها في سماع أغاني السمسمية المميزة لمدن القناة وإن احتفظت كل مدينة منها بنغمة خاصة داخل البناء الهرموني للآلة البسيطة، التي انتقلت إلى هذه المنطقة عن طريق أبناء النوبة أثناء مشاركتهم في حفر قناة السويس منتصف القرن التاسع عشر.

"من بورسعيد للإسماعيلية ومن الإسماعيلية للسويس وع البواخر إحنا البحرية وفي الكنال نرقص ونهيص"  كان صوت الريس حسن العشري أحد رواد أغاني السمسمية البورسعيدي يتردد في آذاننا حين وصلنا قلب مدينة بورسعيد ليستقبلنا تمثال الزعيم جمال عبدالناصر ملوحا بيده وكأنه يحيي الواصلين للمدينة، التي كانت رمزا للصمود والتحدي أثناء فترة حكمه.

والواقع أن في قصة حياة مدينة بورسعيد فصول شتى فالمدنية، التي تصدى أبناؤها للعدوان الثلاثي على مصر عام 1956 تحملت كغيرها من مدن إقليم قناة السويس معاناة سنوات الحرب.

ومازالت ذاكرة أبنائها تحتفظ بالكثير من صور تلك الفترة وفي صور تلك الفترة تبرز قائمة من شباب وفتيات المقاومة، الذين باتوا عنوانا عريضا لسنوات تعتز المدينة الباسلة ببطولاتها.

والسيدة زينب الكفرواي، واحدة من أبرز الأسماء في تلك القائمة، التقيناها في حديقة الشهداء المواجهة لمبنى محافظة بورسعيد رغم سنوات عمرها، التي تجاوزت السبعين، إلا أنها تحتفظ بحيوية في الحركة وتركيز في الكلام وتدفق في المعلومات.

وتروي زينب الكفرواي لنا قصتها مع المقاومة فتقول: "كنت فتاة صغيرة ووالدي كان من رجال البوليس وحين اقتحم العدوان الثلاثي المدينة تشكلت على الفور كتائب المقاومة الشعبية والتحقت بهم عن طريق والدي رحمة الله عليه.

وتواصل: "فاتحت عددا من زميلاتي في الانضمام فقبلن على الفور وكانت مهمتنا تتلخص في توزيع منشورات المقاومة ولصقها على الحوائط أما أنا فقد تطور دوري لنقل السلاح لرجال المقاومة".

وتأخذ زينب الكفرواي نفسا عميقا وكأنها تسترجع تفاصيل تلك المرحلة الفاصلة من حياتها، وتواصل كنت أنقل السلاح في عربة أطفال على اعتبار أن الطفل في العربة هو ابن اختي وذات مرة أوقفني أحد الضباط الإنجليز فظننت أنه كشفني وبسرعة التف حولي الناس وكان من بينهم من يتبعني لحراستي، وقالوا له لماذا توقفها فقال لهم لا شيء ولكن هذا لطفل يشبه ابني ثم التفت إلي وسألني ما اسم هذا الطفل فكان ردي بشكل عفوي وتلقائي: "اسمه جمال عبدالناصر فنظر الضابط إلى وقال حقا هذا اسمه فقلت له نعم ثم تركني أواصل طريقي".

وتضيف الكفرواي كانت نشأتنا وتربيتنا في البيت والمدرسة تعزز بداخلنا قيم الانتماء والتضحية من أجل الوطن وكل من كتبت لهم الشهادة أو أولئك الذين واصلوا حياتهم بعد جلاء القوات الغازية كانوا يتمنون لو أنهم نالوا شرف الشهادة.

حكايات المدينة الباسلة تحفظها ذاكرة أبناء بورسعيد جيدا رغم ما تعرضت له المدينة بعد نصر أكتوبر وتحويلها لمدينة ومنطقة حرة بقرار الرئيس الراحل أنور السادات.

فقد تغيرت المدينة كثيرا وتعرض بناؤها الاجتماعي لهزات عميقة بصعود طبقة التجار والمستوردين وما استتبعه ذلك من تغير سلوكي وظهور جيل جديد من أبناء المدينة لم يعش سنوات الصمود والتحدي التي عاشها آباؤهم.

وعلى مقهى سمارة في قلب بورسعيد التقينا واحدا من أبناء جيل المقاومة هو النائب اليساري المخضرم البدري فرغلي، الذي اعتاد وأصدقائه الجلوس على هذا المقهى منذ سنوات طويلة فهو مقره المختار وبرلمانه الشعبي ممتد الجلسات.

فكريا ينتمي فرغلي وصحبه لجبهة الصمود والمقاومة ورفض أفكار الانفتاح الاقتصادي، التي اجتاحت مصر وفي القلب منها بورسعيد في منتصف السبعينيات، لكنه ينحاز انحيازا مطلقا لمدينته وأبنائها وهو ما دعاه للتأكيد لنا أن مرحلة الانفتاح وما صحبها من تغيير ثقافي واجتماعي على أبناء المدينة لم تصل إلى عمق الشخصية البورسعيدية، التي بقيت كما هي قابضة على روح المقاومة.

ويستشهد فرغلي على ذلك بوقوف أبناء المدينة معه وانتخابه لدورتين متتاليتين وهو العامل البسيط الذي كان يناصب أفكار الانفتاح العداء، ويتفق أصدقاء البدري فرغلي مع ما أكده لنا وإن اعترفوا بأن التغييرات لم تكن سهلة.

أترك المقهى والبدري فرغلي وصحبه، بينما تتزاحم الأفكار في رأسي بشأن ما كان يردده البعض عن أبناء بورسعيد من أنهم يحملون في داخلهم صراعا بين أفكار جيل المقاومة وجيل الانفتاح.

وعلى شاطئ البحر، الذي شهد تحولات كبيرة في السنوات الأخيرة جعلته أكثر جاذبية وتألقا ألتقي مجموعة من شباب بورسعيد لديهم آمال عريضة في مستقبل أفضل.

ويرون أن تراث مدينتهم جديرا بالاحترام سواء في مرحلة الخمسينيات والستينيات أو حقبة السبعينيات وما تلاها وهو يؤمنون بأن القادم أفضل في ظل تدشين عدد من المشروعات التنموية المرتبطة بمنطقة قناة السويس وظهور حقول الغاز في محيط مدينتهم لتصعد مرة أخرى إلى موسيقى السمسمية هذه المرة مع أجيال شابة تردد ذات النغمات غني يا سمسمية لرصاص البندقية ولكل إيد قوية حاضنة زنودها المدافع.