لم يكن عام 2025 مجرد رقم جديد في التقويم التقني، بل كان اللحظة التي "خُلع" فيها الذكاء الاصطناعي من عباءة المختبرات وأروقة النخب ليصبح جزءاً من النسيج اليومي، تماماً كالهواء والكهرباء.
في هذا العام، سقطت الحواجز بين ما هو تقني وما هو اعتيادي، فلم يعد العالم يتحدث عن "موجة ذكاء اصطناعي"، بل عن واقع معاش يملأ مكاتبنا وحتى طريقة تفكيرنا.
لقد شهدنا في 2025 تحولاً جذرياً في فلسفة الأداة، حيث انتقلت التكنولوجيا من دور "المستجيب" لطلباتنا إلى "الوكيل" الذي يبادر ويخطط وينفذ نيابة عنا، مما دفع بالإنتاجية الإنسانية نحو آفاق غير مسبوقة.
ومع تسارع هذا الاندماج الذي شمل كل قطاع—من الخدمات المصرفية إلى الرعاية الصحية وصولاً إلى أبسط الأنشطة المدرسية—بات جلياً أننا نعيش عصر "الذكاء الجماهيري" أو (دمقرطة التقنية)، حيث لم يعد السؤال هو "هل نستخدم الذكاء الاصطناعي؟"، بل "كيف شكل هذا الذكاء واقعنا الجديد؟".
ومع حصاد هذا العام الاستثنائي، تبرز تساؤلات ملحة تفرضها طبيعة المرحلة، إذا كانت التقنية قد أصبحت فعلياً "في كل شيء"، فهل نجحنا في الحفاظ على بصمتنا الإنسانية وهويتنا الثقافية داخل هذا القالب الرقمي؟ وكيف سيتحول "الوكيل الذكي" من مجرد مساعد تقني إلى محرك اقتصادي يحدث الفارق الحقيقي في معيشة الأفراد؟ وأخيراً، هل نحن مستعدون للانتقال من مرحلة "الانبهار بالتكنولوجيا" إلى مرحلة "القيادة والإنتاج" بها؟
ويرى خبراء تكنولوجيا، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، أن عام 2025 مثّل محطة "الدمقرطة الكاملة" للذكاء الاصطناعي، حيث تحول من أداة للنخبة التقنية إلى بنية تحتية تشاركية للعموم.
ويؤكد الخبراء أن الإنجاز الأبرز هذا العام هو ولادة "الوكيل الذكي" الذي يتجاوز دور المساعد التقليدي ليصبح كياناً مستقلاً يخطط وينفذ المهام.
وأشاروا إلى أن التحدي القادم لم يعد في "وجود التقنية"، بل في كيفية تسخيرها لتحقيق طفرة اقتصادية وكفائية مع الحفاظ على الهوية والإبداع البشري، وسط ريادة لافتة لدول المنطقة، وفي مقدمتها الإمارات والسعودية.
الذكاء الاصطناعي أصبح من الأنشطة الاعتيادية اليومية
في حديثه لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" قال عاصم جلال استشاري العلوم الإدارية وتكنولوجيا المعلومات في "G&K": "بدأ الذكاء الاصطناعي يندمج في استخدامات يومية لكثير من المستخدمين ليصبح اليوم من الأنشطة الاعتيادية مثل البحث على الإنترنت والتفاعل على منصات التواصل الاجتماعي".
وأضاف: "ولكن لم نلامس بعد آفاق الإمكانات المتاحة للذكاء الاصطناعي، بشكل احترافي وذلك بتخطي حاجز استخدامه من (بوت) للدردشة لتحويله لمساعد ذكي ذي فعالية ومبادرة ذاتية مستقلة يعمل على الإنجاز التام والآمن لكثير من المهام المساعدة للموظف والتعامل بسلاسة مع عوائق وصعوبات مستجدة تواجه أثناء تنفيذها
ومن ثم فتحقيق العائد الاقتصادي و(الكفائي) المرجو من الذكاء الاصطناعي هو الشاغل الأكبر لعام 2026 وما يليه من أعوام، وتحول الذكاء الاصطناعي من موضوع مثير ومسلي ومبهر نتابع طرائفه في الأخبار إلى مؤثر اقتصادي وإنتاجي يحدث طفرة اقتصادية واضحة".
التأثير على الوظائف
أما عن تأثير الذكاء الاصطناعي على الوظائف والأبعاد الاخلاقية لاستخدامه والتي تشمل هذا التأثير وكذلك تشمل تحري الدقة وتجنب الانحياز واحترام الملكية الفكرية والخصوصية وأبعاد أخرى مهمة فهو شاغل الحكومات والمؤسسات حالياً وفي المستقبل ومحور للمزيد من الدراسات والتشريعات والمبادرات المجتمعية والعلمية، بحسب تعبيره.
ويرى جلال أن أهم إنجازات الذكاء الاصطناعي في عام 2025 كانت "دمقرطة الذكاء الاصطناعي" أو تحول استخدامه من الخاصة التقنية لعموم المستخدمين.
ماذا يجب على المستخدمين فعله؟
وأوضح أن المحتوى المكتوب والمصور الموجود على شبكات التواصل الاجتماعي مثال جيد لسهولة استخدام الذكاء الاصطناعي اليوم من قبل الكثيرين – ولكن وبقي علينا مايلي:
- استخدامه في ما ينفع.
- الحفاظ على إبداعنا الإنساني وهويتنا الثقافية.
- مراعاة أخلاقيات الذكاء الاصطناعي.
- التحول من التسلية والإبهار للفائدة المجتمعية والإنتاجية والاقتصادية.
- التحول من استهلاك الذكاء الاصطناعي للمشاركة في الابداع والإنتاج.
6 أسباب وضعت الإمارات في مقدمة المؤثرين عالمياً في الذكاء الاصطناعي
وأشار استشاري العلوم الإدارية وتكنولوجيا المعلومات في "G&K" جلال إلى أن دول مثل الإمارات العربية المتحدة والسعودية بدأت بالفعل في تحقيق إنجازات عالمية والتموضع كشركاء عالميين في ريادة هذه الصناعة، وبين أن الإمارات تعد الآن أحد أهم خمسة مؤثرين عالميين في هذا المجال من حيث:
- البنية التحتية العالمية للذكاء الاصطناعي من مراكز بيانات متخصصة موجودة داخل الدولة أو استثمارات وشراكات في دول أخرى في أوروبا وأميركا أو محفز للنهوض إقليمياً، مثل مبادرة الذكاء الاصطناعي لإفريقيا ودعم دولها النامية.
- الأبحاث والدراسات وتطوير نماذج الذكاء الاصطناعي مع الاهتمام في نفس الوقت بالذكاء الاصطناعي يفهم لغتنا ويعكس هويتنا.
- الاتجاه إلى اقتصاد الذكاء الاصطناعي بشكل ممنهج وعملي من خلال مبادرات وأهداف وآليات حكومية لاستيعاب الذكاء الاصطناعي اقتصادياً وإنتاجياً.
- وفرة الشركات والمؤسسات ومراكز الأبحاث والتطوير، والمواهب والمبدعين المتخصصين في مجال الذكاء الاصطناعي يعملون بشكل متكامل على تنمية هذه الصناعة.
- بدء توفير خدمات فعلية باستخدام الذكاء الاصطناعي يشعر بها المواطنين والمقيمين والسياح على حد سواء.
- وضع استراتيجيات وكيانات وتشريعات لحوكمة الذكاء الاصطناعي والالتزام بأخلاقيات استخدامه مع تشجيع الإبداع والابتكار.
بنية تحتية أساسية للحياة الحديثة
بدوره، قال إيهاب الزلاقي خبير تكنولوجيا المعلومات في حديثه لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" مع نهاية 2025، لم يعد الذكاء الاصطناعي أداة تكنولوجية متقدمة للمتخصصين فقط، ولكنه تحول إلى ما يشبه البنية التحتية الأساسية للحياة الحديثة، مثله مثل الكهرباء أو الإنترنت".
وأضاف: "التطورات المذهلة في هذا المجال أحدثت تحولاً كبيراً في طريقة تفكير الناس وعملهم وتعلمهم وتفاعلهم مع العالم. على سبيل المثال، أصبح استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي مثل ChatGPT وغيره واقع يومي للمليارات من البشر. كما تحولت هذه الأدوات إلى عناصر مدمجة داخل العديد من الأجهزة ذات الاستخدام اليومي من الهواتف إلى الخدمات المصرفية والرعاية الصحية، ليتحول إلى جزء أساسي في التعامل اليومي مع التكنولوجيا".
وللدلالة على هذا التطور، يمكن فقط النظر إلى الهاتف المحمول، الذي تحول جذرياً من أداة اتصال آلي مساعد ذكي شامل، حيث دمجت الأجيال الجديدة من الهواتف باختلاف أنواعها الذكاء الاصطناعي في كل جوانبها، وأصبحت مع هذا الدمج لا تقتصر على الاستجابة للأوامر، بل تتعلم من سلوك المستخدم وتتكيف مع احتياجاته بشكل استباقي، بحسب الزلاقي، الذي لفت إلى أن الخبراء يتوقعون أن يكون نصف عدد الهواتف الذكية المباعة في العالم مدعومة بقدرات الذكاء الاصطناعي بحلول 2027.
من تكنولوجيا تجريبية إلى محرك رئيسي للإنتاجية
وبالنسبة للعمل، ذكر الزلاقي أن الذكاء الاصطناعي تحول من تكنولوجيا تجريبية إلى محرك رئيسي للإنتاجية، وقال: "تشير أحدث الإحصائيات إلى أن 75 بالمئة من العاملين في المعرفة يستخدمون الآن أدوات الذكاء الاصطناعي في عملهم، وهذا التحول الكبير يأتي مصاحباً لارتفاع غير مسبوق في مستويات الإنتاجية.
بالإضافة إلى توفير الكثير من الوقت من خلال أداء العمليات المتكررة بسرعة وسهولة. وهو ما يعني إتاحة المزيد من الوقت للتركيز على عناصر الابتكار التي يتميز بها البشر".
هذه القفزة في استخدام الذكاء الاصطناعي في العمل لم يوازها إلا استخدام هذه التقنيات في التعليم، وتشير الأرقام إلى ارتفاع هائل في نسب استخدام الطلاب والمعلمين هذه التقنيات في العملية التعليمية، بالإضافة إلي ذلك يعتبر الطلاب أن إتقان مهارات الذكاء الاصطناعي هو أمر أساسي للنجاح المستقبلي في الدراسة أو في سوق العمل، بحسب تعبيره.
وأرجع الزلاقي هذا التوسع السريع إلى العديد من الأسباب أهمها:
- النضج التكنولوجي، حيث أصبحت نماذج الذكاء الاصطناعي أكثر دقة وموثوقية من أي وقت مضى. وتطورت القدرة على معالجة اللغة الطبيعية إلى دقة تقارب البشر مما جعل التفاعل مع الذكاء الاصطناعي طبيعياً وسهلاً.
- الدمج العميق للذكاء الاصطناعي داخل الأدوات التي يستخدمها الناس يوميا، كما فعلت غوغل مثلاً مع محرك البحث الخاص بها وكذلك في البريد الإلكتروني. وكما فعلت مايكروسوفت في دمجه من مجموعة أدواتها المكتبية، وبذلك لم يعد تطبيقاً منفصلاً تفتحه عند الحاجة وإنما أصبح مدمجاً في أغلب التطبيقات مع سهولة الاستفادة من قدراته.
الوكيل الذكي أبرز الإنجازات
ونوه الزلاقي إلى أن الإنجاز التقني الأبرز هذا العام هو ظهور الوكيل الذكي AI Agent وهو عبارة عن أنظمة لا تنتظر أوامر المستخدم، ولكنها تبادر إلى العمل نيابة عنه، بطريقة تختلف عن الوكيل المساعد الذي يستجيب لطلبات المستخدم ويقترح التحسينات ويعزز الإنتاجية تحت سيطرة المستخدم، ولكن مفهوم الوكيل الذكي على النقيض من ذلك، فهو يخطط ويقرر وينفذ مجموعة كاملة من المهام بشكل مستقل دون انتظار تعليمات الخطوة خطوة، فقط يمنحه المستخدم الهدف المطلوب بينما يعمل هو على تحديد المسار الأنسب لتحقيقه.
وشدد خبير تكنولوجيا المعلومات الزلاقي على أن هذه النقلة ستغير الكثير من طرق العمل البشرية على مدار السنوات القليلة المقبلة.