تقف اليابان اليوم أمام معادلة اقتصادية شديدة التعقيد، في ظل تراكم ديون سيادية تُقدَّر بنحو 9.8 تريليون دولار، أي ما يعادل ضعف حجم اقتصادها البالغ 4.4 تريليون دولار، ونحو ثلاثة أضعاف الناتج الإجمالي لقارة إفريقيا.
هذه الديون ترتفع بوتيرة تقارب مليوني دولار كل دقيقة، فيما تصل فوائدها السنوية إلى نحو 220 مليار دولار.
وعلى مدى أكثر من ثلاثين عاماً، افترضت الأسواق العالمية أن الدين الياباني يتمتع بدرجة عالية من الأمان، مدعوماً بالادخار المحلي الضخم وسياسة الفائدة الصفرية.
غير أن تصاعد مستويات التضخم، والانتقال التدريجي نحو رفع أسعار الفائدة، أعادا خلط الأوراق، ووضعا الاقتصاد الياباني أمام اختبار ثقة غير مسبوق.
رفع الفائدة… قرار متوقّع بتداعيات حسّاسة
يوضح المدير التنفيذي لمركز كوروم للبحوث، طارق الرفاعي خلال حديثه إلى برنامج "بزنس مع لبنى" على سكاي نيوز عربية أن الأسواق المالية كانت تتوقع رفع سعر الفائدة بنحو 25 نقطة أساس ليصل إلى ثلاثة أرباع النقطة المئوية، في خطوة تُعد من حيث المبدأ داعمة للين الياباني ولأسواق الأسهم.
غير أن ما شهده السوق منذ بداية الأسبوع السابق، ولا سيما التراجعات المسجلة يوم الاثنين، يعكس أن هذا القرار كان مسعّراً مسبقاً في توقعات المستثمرين.
ويشير إلى أن بنك اليابان تأخر كثيراً في اتخاذ خطوة رفع الفائدة، في محاولة متأخرة للسيطرة على معدلات تضخم مرتفعة تاريخياً مقارنة بما اعتادته اليابان.
ضعف الين.. مسار طويل منذ أكثر من عقد
من زاوية سعر الصرف، يلفت الرفاعي إلى أن ضعف الين ليس ظاهرة طارئة، بل مسار ممتد منذ عام 2011، اتسم بالاستمرارية والاستدامة على مدى سنوات طويلة.
في المقابل، شهدت الأسهم اليابانية ارتفاعاً قوياً خلال السنوات الأخيرة، خاصة في القطاع التكنولوجي.
إلا أن التراجع الحالي في هذا القطاع، سواء في الولايات المتحدة أو اليابان، لا يرتبط ـ بحسب تحليله ـ بضعف الين أو بالسياسة النقدية لبنك اليابان، بل يعود إلى ديناميكيات التداول في أسهم التكنولوجيا عالمياً.
اقتصاد مثقل بالديون وضغوط هيكلية
يرى الرفاعي أن الصورة العامة للاقتصاد الياباني تغيّرت خلال السنوات الماضية، إذ تعاني البلاد منذ فترة طويلة من ضعف اقتصادي مزمن.
ويضع في صدارة التحديات الارتفاع التاريخي في الديون السيادية، التي تتراوح نسبتها بين 220 و250 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وهي مستويات غير مسبوقة عالمياً.
هذا العبء بات اليوم عاملاً ضاغطاً على الاقتصاد ككل، وسط تساؤلات جوهرية حول قدرة البنك المركزي والحكومة اليابانية على السيطرة على هذه النسبة أو خفضها.
جذور الأزمة.. سياسة الفائدة الصفرية
يعود الرفاعي إلى جذور السياسة النقدية اليابانية، مذكّراً بأن اليابان بدأت خفض أسعار الفائدة إلى الصفر منذ عام 1999، ثم حاولت لاحقاً الخروج من هذه السياسة والعودة إلى مستويات طبيعية فوق الصفر، وربما فوق 1 أو 2 في المئة.
إلا أن هذه المحاولات باءت بالفشل في عام 2001، لتعود اليابان مجدداً إلى سياسة الفائدة الصفرية، بل والسالبة، بين عامي 2016 و2024. ويؤكد أن هذه المرحلة وضعت اليابان في “زاوية ضيقة” لم تستطع الخروج منها حتى اليوم.
كلفة الدين.. العامل الأكثر حساسية
يشير الرفاعي إلى أن أي ارتفاع في أسعار الفائدة، ولو كان محدوداً، يفرض ضغوطاً شديدة على كلفة الفائدة التي تدفعها الحكومة اليابانية والشركات للمستثمرين.
وهذا ما يفسر ردود الفعل السلبية للأسواق تجاه أي تشديد نقدي. وفي المقابل، ساعدت سياسة الفائدة الصفرية خلال السنوات الماضية في إبقاء كلفة خدمة الدين منخفضة نسبياً، مقارنة بحجم الدين نفسه، بخلاف ما شهدته بعض الدول الأوروبية عند ارتفاع مديونيتها.
تردد المستثمرين وكسر الحلقة المغلقة
منذ العام الماضي، ومع شروع اليابان في تعديل سياستها النقدية والاقتراب من مستويات “طبيعية” للفائدة، بدأ المستثمرون يظهرون قدراً متزايداً من التردد.
ويرى الرفاعي أن تكلفة الدين مرشحة للارتفاع على المدى الطويل، ما يضعف شهية الاستثمار. كما أن ثقة المستثمرين، ولا سيما العالميين الذين يعتمدون على الين في استراتيجيات “الكاري ترايد”، باتت عاملاً حاسماً، في ظل شعور متنامٍ بأن اليابان عالقة في حلقة يصعب كسرها.
فقدان الثقة.. جوهر الأزمة
يستشهد الرفاعي برفع الفائدة الأول في مارس 2024، موضحاً أن الدافع الأساسي كان التراجع الحاد في سعر صرف الين أمام الدولار، وصولاً إلى نحو 150 يناً للدولار، وهو مستوى لم تشهده اليابان منذ نحو 25 عاماً، إضافة إلى ارتفاع التضخم فوق 3 في المئة.
ورغم أن رفع الفائدة يفترض أن يدعم الين والأسهم، فإن استمرار ضعف العملة يعكس، وفق الرفاعي، السبب الجوهري للأزمة: فقدان ثقة المستثمرين بقدرة البنك المركزي والحكومة اليابانية على معالجة أزمة الدين القائمة.
يكشف تحليل طارق الرفاعي عن اقتصاد يواجه قيوداً بنيوية عميقة، حيث تتقاطع سياسة نقدية مأزومة مع عبء ديون تاريخي وتآكل في ثقة المستثمرين.
وبينما تحاول اليابان تعديل مسارها النقدي، تبقى التحديات أكبر من مجرد رفع تدريجي للفائدة، في ظل معادلة دقيقة تجعل أي خطوة إصلاحية محفوفة بتداعيات واسعة على العملة والأسواق والاقتصاد ككل.