يشهد سوق العمل الأميركي تحولات دراماتيكية مع تسارع انتشار تقنيات الذكاء الاصطناعي، حيث خسر الأميركيون نحو 153 ألف وظيفة في شهر أكتوبر وحده، في أكبر موجة تسريحات تشهدها البلاد في مثل هذا الشهر منذ أكثر من 22 عاماً، وفق تقارير اقتصادية حديثة.
ومنذ بداية العام، بلغت خسائر الوظائف في الولايات المتحدة نحو 1.1 مليون وظيفة، وسط تزايد القلق من تأثير الذكاء الاصطناعي إلى جانب عوامل اقتصادية أخرى، مثل الإغلاق الحكومي وضعف مؤشرات النمو.
ووفقاً لتقديرات بنك غولدمان ساكس، فإن الذكاء الاصطناعي يهدد 300 مليون وظيفة حول العالم خلال خمس سنوات، في حين يتوقع أن يسهم في خلق فرص عمل جديدة قد تصل إلى 170 مليون وظيفة، في مجالات مختلفة مرتبطة بالتقنيات الحديثة. أما صندوق النقد الدولي، فيشير إلى أن 92 مليون وظيفة مهددة بالاختفاء بسبب التطور السريع في هذا المجال.
الذكاء الاصطناعي يغيّر أساسيات الاقتصاد
في حديثه إلى برنامج "بزنس مع لبنى" على سكاي نيوز عربية، قال بشار الكيلاني، مؤسس شركة AI360 للابتكارات، إن ما يحدث اليوم يمثل تحولاً جذرياً في بنية الاقتصاد العالمي، شبيهاً بما أحدثته الإنترنت أو الحوسبة في العقود السابقة، بل يتجاوزها في عمقه وتأثيره.
وأوضح الكيلاني قائلاً: "الذكاء الاصطناعي يغيّر الأساسيات الاقتصادية تماماً، مثلما غيّرت الإنترنت والحوسبة ما قبلها. نحن أمام اقتصاد جديد، الذكاء فيه متوافر بكثرة، لكن المطلوب هو الذكاء الممتاز والمميز."
وأكد أن هذا التحول يتطلب إعادة نظر شاملة في مفهوم التعليم والعمل، موضحاً أن الوظائف التي تعتمد على المهام المتكررة ستكون الأكثر عرضة للأتمتة، إذ يمكن للحاسوب تنفيذها بكفاءة أعلى وتكلفة أقل. وأضاف أن كل وظيفة تقوم على التكرار مهددة بالاختفاء، في حين ستزدهر الوظائف التي تتعامل بشكل مباشر مع الإنسان، أو التي تحتاج إلى مهارات قيادية وتواصل وإبداع وابتكار وتفكير نقدي.
وأشار إلى أن التكنولوجيا لا تقتل الوظائف فحسب، بل تعيد تشكيلها، مؤكداً أن "عدداً كبيراً من المهن سيُعاد النظر فيها بالكامل، في مقابل نشوء وظائف جديدة لم تكن موجودة من قبل".
مهارات جديدة لعصر جديد
شدد الكيلاني على أن المرحلة المقبلة تتطلب ما أسماه "اقتصاد المهارات الجديدة"، مشيراً إلى أن المفهوم التقليدي للتعليم، القائم على دراسة مهنة واحدة مدى الحياة، أصبح من الماضي.
وقال: "فكرة أننا نتعلم مهنة أو مهارة لفترة معينة وتبقى معنا طول العمر، أصبحت غير واقعية. اليوم يجب أن نركز على التعلم المستمر، لأن الأدوات التي كانت تُدرَّس في الجامعات باتت متاحة في الذكاء الاصطناعي بدقة وسهولة أكبر."
وأضاف أن هذا الواقع لا يقتصر على المهن التقنية فحسب، بل يشمل مجالات مثل الصحافة والإعلام، التي أصبحت تعتمد بشكل متزايد على تحليل البيانات واستخدام أدوات الذكاء الاصطناعي في إنتاج المحتوى. وأكد أن الصحافي أو المذيع الذي لا يوظف هذه الأدوات سيخسر فرصاً مهنية كبيرة في المستقبل.
وتابع قائلاً: "نحن بحاجة إلى التفكير بطريقة مختلفة تماماً. التركيز يجب أن يكون على الإبداع والابتكار، وعلى المهارات القيادية ومهارات التواصل، إضافة إلى القدرة على التعلم الدائم واكتساب مهارات جديدة بشكل مستمر."
من "الذكاء الاصطناعي" إلى "الذكاء المدعّم"
وخلال حديثه، دعا الكيلاني إلى تبنّي مصطلح جديد يصف المرحلة المقبلة بدقة أكبر، هو "الذكاء المدعّم" بدلاً من "الذكاء الاصطناعي"، موضحاً أن كل مهنة اليوم بحاجة إلى دعم من أدوات الذكاء الاصطناعي لرفع الإنتاجية والكفاءة.
وقال: "كل مهنة اليوم يجب أن تُدعّم بالذكاء الاصطناعي. الطبيب بحاجة إلى أدوات ذكاء اصطناعي، والمهندس بحاجة إلى أدوات ذكاء اصطناعي، وكذلك المدير والصحافي والعامل في غرفة التحكم الإذاعية. نحن أمام مرحلة يُعاد فيها تعريف كل مهنة."
وأوضح أن المهندس الذي يستخدم أدوات الذكاء الاصطناعي سيكون أكثر إنتاجية وكفاءة وفعالية من المهندس الذي يعتمد على الأدوات التقليدية، مشيراً إلى أن السباق الحقيقي في الاقتصاد الجديد هو سباق الكفاءة والإنتاجية.
وضرب مثالاً بقطاع البرمجة، قائلاً إن إنتاجية المبرمجين زادت بنحو 50 في المئة خلال السنوات الثلاث أو الأربع الماضية بفضل أدوات الذكاء الاصطناعي، ومن المتوقع أن تزداد بنسبة مماثلة خلال الثمانية عشر شهراً القادمة. وأضاف: "المبرمج الذي كان يؤدي عملاً واحداً في عام 2022، أصبح اليوم قادراً على أداء عمل أربعة مبرمجين، وهذا هو جوهر التحول القادم."
كيف ننجح في عصر الذكاء المدعّم؟
قدّم الكيلاني مجموعة من النصائح الجوهرية للأفراد والمؤسسات الساعية للتأقلم مع التحول التكنولوجي المتسارع، مؤكداً أن النجاح في هذا العصر لا يتحقق إلا عبر التركيز على أربع مجموعات أساسية من المهارات:
- مبادئ التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي: شدد على ضرورة أن يمتلك كل فرد أساسيات التعامل مع أدوات الذكاء الاصطناعي، وأن يكون قادراً على استخدامها يومياً سواء عبر الهاتف أو الحاسوب.
- مهارات القيادة والتواصل والعمل الجماعي: أوضح أن التفاعل بين الإنسان والآلة سيشكل محور سوق العمل الجديد، ما يجعل مهارات التواصل والتعاون بين الأفراد والأنظمة الذكية أمراً حاسماً للنجاح.
- الابتكار والإبداع: دعا إلى تعليم فنون الابتكار والإبداع في الجامعات والمدارس، باعتبارها مهارات لا تقل أهمية عن المعرفة التقنية، بل تمثل العنصر الفارق في عصر يتقارب فيه الأداء الآلي.
- استمرارية التعلم والتفكير النقدي: أكد الكيلاني أن القدرة على اكتساب مهارات جديدة بشكل دائم هي مفتاح البقاء في سوق العمل المستقبلي، لافتاً إلى أن التفكير النقدي سيكون من أهم أدوات العامل الناجح في الاقتصاد الجديد.
نحو اقتصاد مدعّم بالذكاء
وفي ختام حديثه، لفت الكيلاني إلى أن العالم يتجه نحو اقتصاد جديد ومختلف، لا يعتمد فقط على رأس المال المادي أو التقني، بل على رأس المال المعرفي والابتكاري.
وقال: "كل مهنة في المستقبل ستتغير، وسينجح من يتقن استخدام الذكاء الاصطناعي كأداة لرفع إنتاجيته وكفاءته. الاقتصاد الجديد يقوم على الكفاءة والإنتاجية والفعالية، وهذه لا تتحقق إلا لمن يفهم كيف يوظف الذكاء الاصطناعي لصالحه."