تعاني دول القارة السمراء تحت وطأة ضغوطات اقتصادية واسعة، سببها الأساسي الانكشاف الواسع على المخاطر الجيوسياسية والتطورات العالمية، جنباً إلى جنب وعوامل داخلية مختلفة، بما يقوض جهود التنمية ويرفع فاتورة "الديون" التي تشكل كابوساً مزعجاً للدول الإفريقية.

ومع ارتفاع كلفة اللجوء إلى الأسواق الخارجية، وفي ظل معدلات الفائدة المرتفعة، عززت البلدان الإفريقية من اتجاهها إلى الأسواق المحلية، ليرتفع الطلب على الديون الداخلية، الأمر الذي قاد بشكل واسع إلى ارتفاع كلفة إعادة تمويل القروض في القارة السمراء.

يأتي ذلك في وقت جعلت فيه أزمات كورونا والحرب في أوكرانيا وارتفاع التضخم والارتفاعات الواسعة في أسعار الفائدة، أسواق السندات الدولية إلى أن تكون أكثر تشدداً، وفق ما ورد في  التقرير السنوي للديون الأفريقية السنوي الصادر عن وكالة "إس أند بي غلوبال ريتينغز".

ووفق "جيه بي مورغان"، فإن عائدات السندات السيادية المقومة بالدولار الذي يطلبه المستثمرون نظير شراء تلك السندات التي تصدرها الحكومات الأفريقية، قفز بمقدار 400 نقطة أساس منذ مطلع العام 2020، مقارنة بسندات الخزانة الأميركية.

أخبار ذات صلة

السعودية ستوقع اتفاقيات بملياري ريال مع دول أفريقية
جنوب إفريقيا تستضيف قمة حول التجارة الإفريقية الأميركية

ووفق ما نقلته شبكه "بلومبرغ" عن محللين في "ستاندرد آند بورز" فإن ارتفاع علاوة المخاطر "يجبر غالبية الحكومات المصدرة للديون السيادية على الابتعاد عن التمويل الخارجي، وبالتالي الاتجاه إلى الأسواق المحلية بمعدلات ونسب متفاوتة من النجاح".

لكن التقرير يشير في الوقت نفسه إلى أن "الطلب المتزايد على الديون المحلية أدى لارتفاع تكلفة إعادة تمويل تلك القروض في مختف أنحاء القارة".

ونبه التقرير من أن المدخرات المحلية -ومع مرور الوقت- سوف تسفر عن صعوبات أوسع، لجهة تزايد العائد على الأصول الخالية من المخاطر بسرعة، وفي سياق سياسة التشديد الكمي.

ارتفاع المخاطر

في هذا السياق، تشير الباحثة في الاقتصاد الدولي، الدكتورة سمر عادل، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إلى أنه:

  • لوحظ أخيراً اتجاه البلدان النامية بوجه عام نحو زيادة وتيرة الاقتراض االمحلي، عن طريق سندات وأذون الخزانة (في ظل ارتفاع كلفة اللجوء إلى الأسواق الخارجية).
  • مع مرور الوقت يضغط الاقتراض الداخلي/ المحلي على الموازنة العامة للدول، بالرغم من أنه بالأساس لتمويل الموازنة.
  • كون هذه الدول "استهلاكية وليست إنتاجية" في المقام الأول، فمن ثم تنفق هذه القروض على "النفقات الاستهلاك"، بما يضغط على المواطن.
  • بمعنى أننا مع مرور الوقت ومع توسع هذه الدول في الاقتراض، إضافة إلى القروض الخارجية؛ يعود كل هذا بالسلب على الاقتصاد الوطني، ليزداد بذلك وضع الدولة المقترضة سوءاً ويبدأ الوضع المعيشي للمواطن في التدهور.

وتلفت إلى أنه مع إبقاء الفيدرالي الأميركي الفائدة مرتفعة، تتجه هذه الدول لرفع سعر الفائدة لديها كذلك، وهذا يعني زيادة حجم وكلفة الديون الداخلية للدولة والضغط على موازنتها العامة بصورة أكبر، وكلها دائرة مفرغة، فكل الاقتراض سواء داخلي وخارجي يصرف في الاستهلاك وليس الإنتاج، إذ بالاطلاع على الموازنة العامة لأي من هذه الدول سيلاحظ أن بند النفقات الاستهلاكية كبير جداً ولا يستهان به على العكس النفقات الإنتاجية التي تكون أقل بكثير.

وتشدد على أنه "من زاوية أخرى فبصرف هذه القروض في البنود الاستهلاكية تكون النتيجة زيادة في معدل البطالة ومعدلات الفقر، ومن ثم تلجأ الدول إلى طباعة عملات محلية لسداد القروض، وتوازيها بزيادة أجور العاملين بالدولة، لكنها تكون زيادة وهمية؛ نظرًا لمستويات التضخم المرتفعة وارتفاع الأسعار التي تصل أحياناً إلى الضعفين".

أخبار ذات صلة

رئيس COP28 يدعو لدعم الدول الأكثر عرضة لتداعيات تغير المناخ
كيف يؤثر المهاجرون على اقتصادات الدول الغنية؟

أزمات تمويلية

وحول إمكانية توظيف الاقتراض المحلي كأداة لحل الأزمات التمويلية للدول الإفريقية، تؤكد الباحثة في الاقتصاد الدولي أن التوسع في الاقتراض لا يحل أزمة لا على مستوى الاقتراض الكلي ولا على مستوى المواطنين، لكنه فقط بمثابة "مسكنات" لنجد في النهاية أزمة كبيرة ظهرت نتيجة هذا الاقتراض.

وترى أن البديل للتوسع في الاقتراض هو:

  • وضع خطط متوسطة أو طويلة الأجل للإنتاج وتنوع الهيكل الاقتصادي.
  • تحسين استغلال عائدات هذه الدول بتوجيهها للإنتاج ومن ثم عائدات الإنتاج هي التي تسدد القروض.
  • إلى جانب دمج الشباب في المشاريع الصغيرة والمتوسطة وتسهيلها لهم وعدم تكبيلهم بفائدة قروض كبيرة.

وبحسب بيانات صندوق النقد الدولي، فإن "عبء الدين العالمي لا يزال أعلى بكثير من مستويات ما قبل كورونا"، وذلك رغم  انخفاض نسبته من إجمالي الناتج الاقتصادي العام الماضي.

  • الدين العام والخاص بلغ 238 بالمئة من إجمالي الناتج المحلي العالمي في 2022، بزيادة بلغت تسع نقاط مئوية مقارنة بعام 2019 (قبل الجائحة).
  • الصين مسؤولة عن جزء كبير من هذه الزيادة، مع ارتفاع ديونها كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي بشكل مُطرد.
  • في البلدان النامية منخفضة الدخل، واصلت الديون الارتفاع، الأمر الذي يخلق "تحديات ونقاط ضعف"، يأتي على رأسها خطر العجز عن السداد في أكثر من نصف هذه الدول.

ويشار في هذا السياق، إلى أن متوسط الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي للدول الإفريقية ارتفع إلى 62 بالمئة خلال العام الجاري 2023، وذلك مقارنة مع 48 بالمئة في 2017، وفق بلومبيرغ.

وفي اجتماعات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، في المغرب، أعلن الصندوق عن أن هناك 8 دول في جنوب الصحراء الكبرى في إفريقيا سوف تحتاج إلى إعادة هيكلة الديون.

دائرة مفرغة

بدوره، يوضح أستاذ الاقتصاد، مستشار البنك الدولي، محمود عنبر، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، أنه "لا يتعين النظر لحجم القرض من زاوية الرقم المطلق، لكن ينظر إليه من رؤيتين؛ الأولى نسبتها من الإنتاج المحلي الإجمالي،  والرؤية الثانية هل استخدام القروض للأغراض الاستهلاكية أم للأغراض الإنتاجية؟".

وينبّه بأن الدول الإفريقية بها مشكلات هيكلية، لا سيما فيما يتعلق باقتصاداتها التي تعاني من حالة من حالات التبعية.

"إذا قسمنا الدول الإفريقية إلى مجموعة من المناطق، وهذا بالطبع تقسيم استراتيجي أكثر منه تقسيم ديموغرافي؛ فنجد دول غرب إفريقيا تبعيتها الأساسية وحتى اقتصادياً لفرنسا، والدول التي كانت استعماراً فرنسياً الشريك الاقتصادي الأول لها هي فرنسا، ومن المفارقات أن بعضاً منها يتبنى الفرنك الإفريقي كعملة رغم تخلي فرنسا نفسها عن الفرنك".

ويردف عنبر: "بالنسبة للدول الأفريقية، فإن الاقتراض المحلي لم يعد كافياً لتمويل عملية التنمية، كذلك لا يمكن أن يكون بديلاً للاقتراض الخارجي؛ لأن الاقتراض المحلي بالعملة الخاصة بالدولة، ومن ثم فإنها تحتاج إلى الاقتراض الخارجي لتوفير العملة الصعبة التي من خلالها تستطيع استيراد السلع الأساسية وشراء بعض مدخلات الإنتاج لمحاولة توطين الصناعة.

ويلفت إلى أن زيادة ضغوط الدين المحلي من أهم أسباب تعطيل عملية التنمية، فتضطر الحكومة اضطرارا إلى ترشيد نفقاتها، وهو الأمر الذي ينعكس على كثير من الأمور أولها الخدمات الأساسية، التي يتمتع بها المواطن، وثانيًا الاستثمارات الحكومية في الدول الأفريقية التي تتطلب الاهتمام بالبنية التحتية، والتي تعد واحدة من أهم المشكلات المعوقة لتنمية القارة السمراء بشكل عام.

ويضيف: من التداعيات السلبية أيضاً أن الحكومات تكون ملزمة برد الدين المحلي مع فوائده، وهو ما يؤثر سلبا على الموازنة العامة للدولة، وتضطر الحكومات إلى فرض الضرائب وترشيد النفقات، وهذا يقف ضد عملية تحفيز الطلب، ولذلك فإن الدين المحلي يؤثر سلباً في المؤشرات الاقتصادية كافة حتى البطالة؛ لأنه دون وجود استثمار فهذا يعني زيادة البطالة، واضطرار الحكومة لرفع سعر الفائدة وبما يؤثر على الاستثمار ومن ثم يزيد من نسبة البطالة في حلقة مفرغة.

أخبار ذات صلة

تعويل جزائري على "الهيدروجين الأخضر".. عوائد مليارية مرتقبة
ليبيا.. إنتاج النفط يتجاوز 35.8 مليون برميل في سبتمبر

خدمة الدين

وارتفعت تكلفة خدمة الدين العام السنوية الخاصة بأفقر دول العالم 35بالمئة العام لتصل إلى 62 مليار دولار، وذلك لصالح الدائنين الثنائيين من الدول والصناديق السيادية، بحسب الإحصاءات التي كشف عنها رئيس البنك الدولي، ديفيد مالباس، في شهر ديسمبر الماضي.

  • قرابة نصف دول إفريقيا جنوب الصحراء تتعثر في سداد التزاماتها، أو معرضة لخطر التعثر، بحسب البنك الدولي.
  • تقدر ديون إفريقيا بنحو تريليون دولار في 2022.
  • تضاعفت الديون الإفريقية خمس مرات منذ العام 2000، وتتركز 66 بالمئة منها في 9 بلدان (جنوب إفريقيا في الصادرة).
  • 22 دولة إفريقية تعاني مع عدم قدرتها على الوفاء بالتزاماتها المالية تجاه الدائنين، بحسب صندوق النقد الدولي.
  • وفق الصندوق، فإن أقساط الديون البالغة نحو 100 مليار دولار سنوياً تضغط على ميزانيات العديد من البلدان وتستقطع أكثر من 15 بالمئة من الناتج الإجمالي.

علاج الأزمة الاقتصادية

من جانبه، يحذر خبير الشؤون الإفريقية رامي زهدي، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، من أن إفريقيا الآن تنتقل من وضع اقتصادي سيء إلى وضع أكثر سوءاً؛ لأن تداعيات ما حدث من أزمة كورونا التي أرهقت الميزانيات الإفريقية ومن بعدها الحرب في أوكرانيا، بالتوازي مع انكماش اقتصادي عالمي؛ أثر بالتأكيد على القارة الإفريقية في شكل انخفاض الموازنات وعجز الميزانيات، ومشكلة في النقد الأجنبي، إضافة إلى ارتفاع تكلفة الواردات الأجنبية من السلع الضرورية وهي الغذائية والدوائية.

ويتابع: ومن ثم لجأت الدول الإفريقية لعلاجات لأزمتها الاقتصادية، وكان أمامها عدة طرق، والطريقان المعتادان هما الاستدانة الخارجية، وهذا ما استنفدت فيه القارة الإفريقية جميع فرصها خصوصًا مع عجز دول عن السداد في نهاية 2022، والطريق الثاني هو الاستدانة الداخلية بأدوات الدين المختلفة، وهذا أدى إلى معدلات تضخم غير طبيعية في معظم الدول الإفريقية؛ بما فيها الدول الكبرى، التي أصبح لديها عجز كبير في سداد الديون وأقساطها سواء الداخلية أو الخارجية.

ويشير إلى أن أول أزمة هي تعطل خطط التنمية في بعض الدول الأفريقية، علاوة على العوائق المرتطبة بعلاج المشكلات القائمة فعلياً مثل الغذاء والطاقة والتعليم والصحة والأمن والسلم، ومن ثم هذا يزيد الأوضاع الاقتصادية والمجتمعية؛ مما يهدد الأمن والسلم في هذه القارة، وبالتأكيد سينعكس على العالم.

  • زيادة حجم الدين، وخاصة الخارجي، تؤثر على توجيه الإرادة السياسية لهذه الدول لصالح قوة عالمية أخرى أو تصب في إطار السيطرة على القارة الفريقية؛ لأنها أصبحت عاجزة عن سداد الديون لهذه الدول.
  • مع استمرار الأزمة ستزداد معدلات الفقر وعدم الرضا من الشعوب الأفريقية على بعض الأنظمة السياسية، ما يؤجل أي محاولات إصلاح اقتصادي أو اجتماعي كان هناك أمل بحدوثها.
  • بالإمكان تحويل هذه القروض إلى أداة إيجابية والاستفادة منها، عبر تحويل هذه الديون إلى مدخرات وإلغاء جزء كبير من فوائد الديون على الدول الأفريقية حتى تتمكن من سدادها.