"قرية صغير".. هي صفة أطلقها المتخصصون على عالمنا الحديث مع انتشار مفهوم العولمة، والذي أتاح وسهل حركة التجارة بين الدول، ليغير العالم، من دول متباعدة، إلى منازل متجاورة في قرية تعتمد فيها الدول على بعضها.

ومنذ انتشار مفهوم العولمة في تسعينات القرن الماضي، تعمقت وتوطدت علاقات الدول التجارية من شرق العالم لغربه.

إلا أن السنوات القليلة الماضية، شهدت أزمات، باتت توضح أن العالم يتجه لتكوين "مجتمعات مغلقة" داخل ذات القرية الصغيرة المألوفة.

فمنذ بدء انتشار وباء كورونا بنهاية عام 2019 وبداية 2020، تأثرت سلاسل التوريد العالمية، فتجلى للعالم أنه بات معتمدًا على بعضه البعض بشكل دق ناقوس لبعض الدول، ومنها الولايات المتحدة، بأن لاعتمادها على الدول الأخرى خطورة حقيقية.

وفي نهاية فبراير من العام الجاري، اندلعت الأزمة الأوكرانية، والتي أوقفت صادرات كييف من الحبوب إلى دول العالم، فدفعت بعضها إلى حافة الجوع، كما رفعت من أسعار الغذاء بشكل حاد، فأضر بالدول الأخرى.

كما لم يسلم العالم من ارتفاع أسعار النفط بعد أزمة أوكرانيا، فمضى شبح التضخم يحلق في سماء العديد من الدول، حتى بلغ معدلات لم تشهد منذ نحو 40 عام.

ومع الأيام الأولى من شهر أغسطس الجاري، اشتدت التوترات بعد زيارة نانسي بيلوسي، رئيس مجلس النواب الأميركي لجزيرة تايوان بجنوب شرق آسيا، ما أغضب الصين، والتي تقول بأن تايوان جزء أساسي من أرضها.

لتستيقظ الولايات المتحدة على حقيقة أن جزيرة تايوان تصنع أكثر من نصف الرقائق الإلكترونية في العالم، والتي تعد جزءًا أساسيا في أغلب صناعات التكنولوجيا الحديثة.

فمع اشتداد الأزمات.. هل ستقسم التحالفات بجدرانها العريضة خريطة "القرية الصغيرة" التي أسسها مفهوم العولمة؟

تغييرات في العولمة

العولمة بدأت بانفتاح اقتصادي بغرض تسهيل عمليات تصدير المنتجات من الدول المصنعة إلى الدول الأخرى، بحسب قول د. محمد الحدب، الخبير بالاقتصاد والسياسة العامة وأستاذ المحاسبة المالية بجامعة آل البيت بالأردن، في تصريحات لاقتصاد سكاي نيوز عربية.

ويضيف الحدب بأن مفهوم العولمة امتد ليشمل الجوانب السياسية والثقافية في العلاقات بين الدول.

وأشار إلى أن وباء كورونا وتأثيرها على سلاسل التوريد، وأزمة أوكرانيا، وضحتا لدول العالم أنها باتت تعتمد على الدول الأخرى بشكل كبير، فبات ظاهرًا للاتحاد الأوروبي أنه يعتمد بكشل كبير على الغاز الروسي، وبات ظاهرًا للولايات المتحدة أنها تعتمد على الرقائق التايوانية.

المخاوف من سيطرة تايوان على صناعة إنتاج الرقائق دفعت الولايات المتحدة للعمل على دعم وتعزيز صناعة الرقائق على أراضيها، فوقع الرئيس الأميركي جو بايدن على قانون يقدم دعم بقيمة 52 مليار دولار بهدف تعزيزالصناعة، والتي تراها الولايات المتحدة "حساسة" لها.

أخبار ذات صلة

أسهم أميركا تتراجع بسبب مخاوف التضخم وتوقعات مبيعات الرقائق
هل تكون الطاقة الشمسية بديلا آمنا لألمانيا عن الغاز الروسي؟

ومنذ اندلاع أزمة أوكرانيا، باتت دول الاتحاد الأوروبي تبحث عن بدائل للغاز الروسي يمكنها من توليد الطاقة، بالتزامن مع خطة أعلنتها المفوضية الأوروبية تهدف لتقليل الطلب على الغاز من الاتحاد الأوروبي.

وأوضح الحدب أن شدة اعتماد الدول على غيرها، باتت تنذر بالخطورة، ما دفع الدول الكبيرة للبحث عن تحالفات جانبية تضمن لها أولوية الحصول على احتياجاتها بسهولة، لتتجنب الأزمات التي قد تعرض لها نتيجة سلاسل التوريد أو الصراعات السياسية.

كالتحالفات بين الصين وروسيا، وبين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وبريطانيا، وغيرها، والتي تمتد للعديد من السلع والمنتجات، لتشمل الحبوب والغذاء، إلى الإلكترونيات والنفط وغيرها.

ومع توقف الحبوب من أوكرانيا، بدأت الدول واحدة تلو الأخرى في الإعلان عن وقف تصدير الحبوب، بهدف تعزيز أمنها الغذائي، مع تقديم "استثناءات محددة" لدول بعينها.

انقسامات وتهميش .. بالقرية الصغيرة

مع اشتداد الأزمات التي يشهدها العالم، باتت الدول تبحث عن تحديد مسارات واضحة للتعاون مع دول بعينها، تتشارك على الأرجح في علاقات واضحة أقرب للتحالف.

فتحدثت وزيرة الخزانة الأميركية، جانيت يلين، من كوريا الجنوبية، قائلة إن على الولايات المتحدة وشركائها التجاريين الموثوق بهم تعزيز مرونة سلاسل التوريد عن طريق وسيلة "دعم الأصدقاء".

وأكدت يلين على ضرورة أن تدعم الولايات المتحدة وحلفائها العمل على إنشاء "سلاسل توريد" بين الشركاء الموثوق فيهم.

وبحسب يلين، فإن آلية "دعم الأصدقاء" هي سياسة تهدف لعزل سلاسل التوريد بين الدول الصديقة عن الاضطرابات الخارجية، وذلك من خلال قيام مجموعة من البلدان ذات القيم المشتركة بنشر سياسات تعزز التعاون مع الدول الصديقة التي تحمل نفس القيم.

وقال الحدب إن غياب الحلول للأزمات التي يشهدها العالم حاليًا بات هو الأمر الأكثر وضوحا، مشيرًا إلى أن الصراعات الجارية حاليًا قد لا تشهد انفراجة قريبة.

إذ لا يوجد حل واضح حاليًا لأزمة أوكرانيا، كما أن الصين تعتمد في نهجها وصراعها مع الولايات المتحدة على سياسة "الأمد الطويل".

وأضاف أن المعطيات الحالية، توضح أن المزيد من التحالفات قد تتشكل في العالم، كي تضمن احتياجاتها الأساسية، إلا أن الدول الأكثر احتياجا، والأكثر استهلاكا، والأكثر فقرًا ستصبح مهمشة خارج أي تحالفات.

ويرى الحدب أن الدول النامية قد تكون الأكثر تضررًا من سياسة التحالفات التي تقوم بها دول العالم حاليًا، إذ أن تهميشها من التحالفات هو الأرجح، كونها لا تنتج السلع التي تحتاجها الدول المتقدمة.

ولا يستبعد أستاذ الاقتصاد من أن يشهد الاقتصاد العالمي ركودًا بسبب الأزمات الحالية، ما يعني أن وتيرة الانقسامات داخل "القرية الصغيرة"، قد تصبح أسرع، دون وجود حلول في المدى القريب.

وكان الرئيس التنفيذي لشركة "بلاك روك" الأميركية، لاري فينك، قد قال إن الأزمة الأوكرانية قد "أنهت العولمة كما عرفناها"، حسب تعبيره في تقرير نشرته "سي إن إن".

وقال فينك، والذي يرأس الشركة التي تدير أصولًا تتجاوز قيمتها 10 تريليونات دولار، إن الشركات حول العالم تقوم حاليًا بإعادة تقييم مدى اعتمادها على الدول الأخرى في تصنيع منتجاتها.

وأوضح أن السبب الرئيسي هو العقوبات التي فرضتها العديد من الدول على روسيا، ما قد يتسبب في عزلها اقتصاديا عن بقية العالم.

وأضاف أن أزمة أوكرانيا كانت مشهد النهاية للعولمة التي عرفها العالم في 3 عقود، بعد أن رسم وباء كورونا الخطوط الممهدة لهذه النهاية، مشيرًا إلى أن المستفيد الأكبر من انتهاء العولمة سيكون الشركات المحلية في الدول الصناعية وحلفائها.