بمجرد أن ترتفع دعوات مطالبة بالعلمانية ينبري الإخوان قائلين: "العلمانية لا بد أن تقترن بالديمقراطية". وإن هذا لأمر عجيب.

منبع العجب أن الإخوان عاشوا تاريخهم كله يحرضون على الديمقراطية. ويقولون إنها تنزع الحاكمية من الله وتعطيها لغيره، سواء كان هذا الغير أغلبية شعبية أو برلمانية أو هيئة قانونية وضعية.

فكيف نفسر هذا؟ هل صاروا فعلا دعاة ديمقراطية؟

ازدهار التجارة عبر رأس الرجاء الصالح وعبر طريق الحرير، والوصول إلى الأميركتين، مكن الإنسان من اكتشاف حقائق جديدة عن العالم وعن الثقافات الأخرى، دونها الرحالة والكتاب في أدب الرحلات. هذه الحقائق زرعت بذور الشك في الرواية التي كان رجال الدين يقدمونها عن العالم وسكانه.

هذا النشاط الاقتصادي أدى أيضا إلى تنامي ثروات خاصة في جيوب طبقة جديدة، غير مرتبطة بإقطاع الأرض الزراعية. كما صار عدد أكبر من المواطنين يعملون في مهن لا ترتبط بمراكز الثروة التقليدية تلك. وبالتالي لا يعتمدون عليها كمصدر للدخل والتموين الغذائي.

لكن هذه الحال الجديدة استلزمت أيضا قيما جديدة. فيها السماحة والمساواة القانونية، التي تسمح للناس مهما اختلفت عقائدهم بتبادل التجارة مع حفظ حقوقهم.

وأدى هذا إلى نشوء وتطور مفهوم الشركة متعددة المساهمين، الذي مثل بدوره مركز ثقل اقتصادي يحل تدريجيا محل الإقطاع الزراعي.

نشأت القيم العلمانية والقيم الديمقراطية في إدارة المجتمعات في ظل هذا النمو الرأسي للثروة (الرأسمالية). وارتكزت على ركيزة هامة جدا: كيف نصون "الملكية الخاصة". فلا يعتدي عليها معتد ولا سلطة، تحت أي دعوى.

كان هذا ضروريا لكي يعمل هذا النشاط الاقتصادي والإنساني في أمان. وبقية القصة تعرفونها مع الثورة الصناعية.

تواكب مع هذا كله صدور الأدبيات الفكرية التي بلورت هذا التغير الاجتماعي وصاغته في نظريات سياسية وفلسفية، ودخل في مناهج التعليم، حتى صار جزءا أساسيا من ثقافة مجتمعاتها.

بدءا من الإصلاح الديني ومرورا بفلسفة الحكم. تلك التي صرنا نعرفها بالأسس العلمانية الديمقراطية، التي تبدأ من الفصل بين مؤسسات الدولة وبين سلطة الدين، وبالتالي نبذ التفرقة بين المواطنين على أساس من عقيدتهم، وكفالة مساواتهم أمام القانون، والسماح لهم بحرية التعبير عن أفكارهم. وأيضا صيانة ممتلكاتهم الخاصة.

بتنامي الملكية الخاصة نمت مراكز سلطة موازية، وهي الأساس الذي سيرتكز عليه "تداول السلطة" لاحقا.

لاحظوا أنني لم أتحدث حتى الآن عن الانتخابات. هذا موضوع آخر. وسآخذ إنجلترا مثالا. هناك صور عدة من الانتخابات عرفت حتى من القرن الثالث عشر. لكن المرأة - نصف المجتمع - لم تحصل على حق التصويت إلا في ١٩١٨. ولم يحصل عموم المواطنين على حق التصويت دون اشتراط حد أدنى من التملك إلا في عام ١٩٢٨. لقد جاء هذا بعد قرون من النضال لتثبيت "القيم الديمقراطية".

حين يتحدث الإخوان عن الديمقراطية لا يتحدثون عن القيم السابق ذكرها، بالعكس.
فهم دعاة متحمسون ضد مساواة المواطنين أمام القانون بغض النظر عن عقيدتهم، ودعاة متحمسون ضد حرية العقيدة وحرية تبادل الأفكار.

هم في الحقيقة يريدون من الديمقراطية الانتخابات، من حيث انتهت. يريدون الانتخابات سريعا قبل أن تنتشر قيم الديمقراطية. وهذا لسبب واضح جدا.

في اللحظة التي تنطلق فيها دعوات التغيير في المجتمعات لا تحظى هذه الدعوات بتأييد الأغلبية. الإصلاحات البروتستانتية قدمت في مجتمع كاثوليكي، لو دعي إلى التصويت عليها لرفضها.

الدعوة الإسلامية نفسها قدمت إلى مجتمع جاهلي، لو دعي إلى التصويت عليها لرفضها.

الإخوان يقولون الديمقراطية ولكن يعنون بها "ديكتاتورية الأغلبية". أي استخدام التصويت الانتخابي لإقرار قوانين تخنق الحقوق الديمقراطية، تحدد ما يستحقه المواطنون من حقوق على حسب دياناتهم، أو نوعهم، وتضع حدودا للتفكير لا يسمح لأحد بأن يتعداها.

كل هذا من خلال الفهم الديني القائم قبل إجراء إصلاحات دينية.

ببساطة، يريدون الانتخابات ليسرعوا إلى تفريغ  الديمقراطية من معناها تماما، ويقوضوا بها العلمانية، كما فعل نظراؤهم في إيران.

من الحجج التي يقدمها الإخوان في ذلك قولهم، إن الشيوعيين كانوا علمانيين بلا ديمقراطية وانظر ماذا جرى. وهذا تضليل كبير.

مشكلة الشيوعيين الأساسية كانت في احتكار الملكية. التهاون في قداسة الملكية الخاص يؤدي إلى تركز السلطة والثروة في يد الحكومة المركزية، ويقتل أفق تداول السلطة، ويمكن السلطة من فعل ما تشاء وخنق حرية التعبير واختيار العقيدة الدينية كما تشاء. وهذا ما حدث.

مشكلة الشيوعيين كانت الشيوعية نفسها، كما مشكلة الإسلاميين الدين السياسي نفسه. هذا بذر أسود لو حكم بطيخة حمراء لتليفت.

هل يعني هذا أننا لا نحتاج إلى الديمقراطية؟

بلى، نحتاج إلى القيم الديمقراطية. نحتاج إلى الفصل بين مؤسسات الدولة وسلطة الدين، الملكية الخاصة، حرية التعبير، والمساواة بين المواطنين.