شاء القدر أنني كنت بين الصحفيين الذين غطوا الثورة الليبية، من بدايتها إلى نهايتها، كانت البداية من طرابلس في مايو 2011، حيث أنجزت مقابلة مع الساعدي نجل معمر القذافي، وخلال جلساتي معه قبل التسجيل ركز كثيراً على أن دولة قطر هي التي حركت الأمور في ليبيا.

وأكد أنها "تدعم كل هذه المآسي التي تحل بنا، ورغم أننا كنا نعتقد أنها أقرب الأصدقاء، لكن يبدو أنهم يريدون تدمير ليبيا".

كان يردد هذه الكلمات وهو في غاية التأثر، وبعد صمت قليل قال لي: "هل تعلم أن والدي القذافي ليس مصدقاً حتى الآن أن قطر تقف وراء ما يجري، وذلك لمتانة العلاقة التي كانت بيننا"؟

وسرد العديد من الأمثلة .. أذكر منها أن جميع القادة العرب، في قمة سرت الأخيرة، كانوا يخضعون لحراسة عادية، ما عدا أمير قطر، كانت تحرسه كتيبة خاصة من (لقحوص) أبناء عم معمر القذافي.

بعد زيارتي لطرابلس، توجهت إلى بنغازي عن طريق تونس، هناك بدأت أفكر في كلام الساعدي، كان الدعم القطري واضحاً وجلياً، كان هناك جسر جوي، لنقل السلاح إلى بنغازي وتونس، لكن هذا السلاح كان يسلم في بنغازي لكتيبة 17 فبراير، التي يقودها إسماعيل الصلابي، شقيق على الصلابي، ومعظمها من المتشددين، الذين كانوا في سجون معمر القذافي.

أما السلاح الذي يصل تونس، فكان يسلم للقيادي السابق في تنظيم القاعدة عبدالحكيم بلحاج، حيث كان يتولى محور الجبل الغربي.. كانت الجبهة الرئيسية هي جبهة لبريقة، حيث يوجد الجيش الليبي، المدافع عن الثورة، بقيادة اللواء عبدالفتاح يونس، رحمه الله، الذي تم اغتياله في ما بعد عقاباً له.

أبلغني مصطفى عبدالجليل، رئيس المجلس الانتقالي بأنه ذات يوم، بلغهم أن بعض المتشددين من درنة، كانوا يأخذون السلاح ويذهبون به إلى درنة، انتفض عبدالحفيظ غوقة، نائبه في رئاسة المجلس، وقال لهم: "هؤلاء لابد أن نقاتلهم، هؤلاء أخطر علينا من معمر القذافي". وكان هناك اعتراض واضح على كلام غوقة، من أعضاء جماعة الإخوان في المجلس الانتقالي، لكن المستشار عبدالجليل حسم الموقف ووعد بأنه سيقابلهم ويتحدث معهم، وقد حصل، حيث أبلغوه بأنهم ينظفون السلاح في درنة، ويتوجهون به إلى الجبهات.

ويضيف المستشار عبدالجليل أنه قابل الجماعة نفسها، في جميع جبهات القتال وقد كانت جماعة تتبع لتنظيم القاعدة الإرهابي .. كان اللواء عبدالفتاح يونس يعرف خطورة هذه الجماعة، وكان يعترض على السلاح الذي ترسله إليهم قطر، وكان يطمح أن يتم تحرير ليبيا، من طرف الجيش الليبي، وذلك للحفاظ على ما تبقى من الدولة، لكن قطر لم تكن تريد ذلك، والدليل أن مساعداتها من السلاح، كانت تسلم للمتشددين فقط، في جميع الجبهات، لذلك لم يكن اللواء، رحمه الله، مرغوباً فيه، وتم اغتياله من طرف إرهابيين مع رفيقيه، وكان واضحاً أن الطريقة التي اغتيل بها داعشية بامتياز.

وبعد إعلان التحرير قدَّم الدكتور محمود جبريل خطة، لضم جميع التشكيلات المسلحة في جسم واحد، وذلك لجمع السلاح، الذي كان يشكل الهاجس لكل من لا يريد لليبيا أن تكون دولة فاشلة، لكن خطة الدكتور محمود جبريل قوبلت من طرف جناح الإخوان في المجلس الانتقالي برفض شديد، حيث أصدر المجلس قراراً يلغي قرار محمود جبريل، بضم التشكيلات المسلحة في تشكيل واحد.

رئيس الأركان القطري هو الذي ضغط على المجلس الانتقالي، لإلغاء قرار محمود جبريل، كما أبلغني أحد أعضاء المجلس ، وبعده أطل علينا أمير قطر في ذلك الوقت عبر شاشات التلفزيون في مؤتمر صحفي من باريس معلناً أن من سماهم الثوار، لن يلقوا سلاحهم.. كان واضحاً أن قطر لا تريد جيشاً منظماً في ليبيا، وتصر على تقوية الجناح المتطرف من الثوار.

بعد اغتيال السفير الأمريكي في بنغازي، أبلغت من طرف أحد النافذين في المجلس الانتقالي، بأن الولايات المتحدة تنوي توجيه ضربات جوية لبعض الكتائب المتشددة، وفعلاً أمضينا أياماً عدة نشاهد طائرات من دون طيار تحوم فوق مدينة بنغازي، وبعض المدن الأخرى، منها درنة، لكن قطر، كما أبلغني المسؤول، ضغطت كثيراً في اتجاه إلغاء الضربات.

وبعد الانتخابات التاريخية، التي أفرزت المؤتمر الوطني، التي قال فيها الشعب الليبي "لا" بوضوح لتيار الإسلام السياسي والتيار المتشدد، حيث حصل التيار الليبرالي، بقيادة الدكتور محمود جبريل، على أغلبية المقاعد، وفشل القيادي السابق في تنظيم القاعدة عبدالحكيم بلحاج، في الحصول على مقعد واحد، رغم أنه أنشأ حزباً سياسياً، واستطاع الإخوان وشخصيات متشددة أخرى، دخول المجلس والجميع يعلمون كم كان حجم الأموال، التي أُنفقت قبيل الانتخابات، من طرف هذه الجماعات المتشددة، ورغم ذلك لم يستطيعوا نيل ثقة الشعب الليبي.

لم يرق ذلك للجماعات المتشددة، المدعومة قطرياً، وبدأت تقتحم جلسات المؤتمر الوطني بالسلاح، واختطفت رئيس الوزراء علي زيدان في ذلك الوقت، إلى أن وصل الأمر لاقتحام مطار طرابلس، ومعارك فجر ليبيا.

وبعد ظهور عملية الكرامة في الشرق الليبي، بقيادة المشير خليفة حفتر، دعمت قطر المتطرفين في المنطقة الشرقية، لمواجهة عملية الكرامة، ودعمت جماعة فجر ليبيا في الغرب، وقد شهدنا جميعاً الحملة التي شنتها وسائل الإعلام القطرية على عملية الكرامة وحفتر.

خيار دعم المتشددين، بداية الثورة، وخيار دعمهم بعد انتهائها إلى اليوم، وخيار تغييب اللواء عبدالفتاح يونس، الذي كان يطمح إلى جيش ليبي يحفظ هيبة الدولة، وخيار إفشال مشروع المشير حفتر، الذي يطمح لبناء جيش ليبي، يكافح الإرهاب، ويوقف يده التي سفكت الآلاف من أرواح الليبيين، وعبثت بمقدرات الدولة، إضافة إلى تنفيذ مئات العمليات، لتصفية خيرة ضباط الجيش الليبي، بعد انتهاء الثورة.. كل هذه أدلة واضحة على أن بعض الدول، التي دعمت الشعب الليبي في ثورته، ضد نظام القذافي، لم يكن دافع الخير المحرك الرئيسي لها، بل كان دافع الشر هو الذي حركها ضد نظام القذافي، أو بالأحرى ضد الدولة الليبية، لكن المواطن الليبي البسيط هو الذي يدفع ثمن تلك الفزعة الشريرة.