ما يجري السودان يبدو وكأنما هو جبل جليد لأزمات معقدة ومتراكمة منذ ما يربو على العشرين عاماً تشكل عمر نظام الحكم الحالي.

أهم ما كشفت عنه الاحتجاجات الحالية هو مدى تغلغل ثقافة العنف في أوصال النظام السوداني، فالدولة لم تتردد في استخدام الذخيرة الحية ضد ابنائها وبناتها العُزّل، فقتلت من قتلت وأصابت من أصابت وخلفت جرحاً غائراً في مجتمع عُرِف بالتسامح واحترام الآخر وهو ما قد يشكل حاجزا نفسيا بين الشعب ونظام الحكم.

هنالك ثلاثة مستويات أساسية لقراءة الوضع الحالي في السودان، المستوى الأول يتعلق بأثر الأزمة على الحزب الوطني الحاكم، أما المستوى الثاني فيتعلق بآليات المعارضة وقدرة المد الجماهيري على التواصل نحو هدف محدد، والمستوى الثالث يتعلق ببنية المعارضات المختلفة التي تنشط الآن في السودان.

قرار قادة الدولة بتسليم أمر الحل والعقد في الأزمة الحالية لأجهزة الأمن لم يخلُ من تعقيدات كبيرة على المستوى التنظيمي.
ومع بدء سقوط الضحايا في ود مدني والخرطوم لم يستبعد كثيرون ممن تحدثت اليهم أن يؤدي الإفراط في استخدام العنف إلى حدوث تشققات في جسد الحزب الحاكم، فهذا الحزب يعيش منذ فترة حالة استقطاب حاد على المستوى القيادي لذا فان مذكرة الواحد والثلاثين قياديا لم تشكل مفاجأة كبيرة.

تحدثت الى قيادي اسلامي بارز وقع على هذه المذكرة وطلب مني عدم ذكر اسمه، فقال لي إنها ليست المذكرة الأولى التي يوجهونها الى رئيس الجمهورية، فهناك مذكرة أُرسلت من قبل لكنه تجاهلها. وحينما سألته عن الخطوة المقبلة إذا تجاهل الرئيس مطالبهم مجدداً فقال لي سنذهب الى تشكيل جبهة عريضة ونتحالف مع آخرين من أجل الحفاظ على الوطن. أما هدفهم الأساس فيتمثل في إقامة انتخابات حرة نزيهة شفافة يترشح فيها من يشاء ولا يهمهم كثيراً أن فاز مرشح آخر غير الرئيس عمر البشير.

القيادي قال لي إن الاحزاب الحديثة ما عادت تعمل بالرأي الواحد، بل أصبح الخلاف في الرأي داخل الحزب الواحد سمة الديمقراطيات الحديثة وضرب مثلا ببريطانيا حيث رفضت مجموعات داخل حزب المحافظين دعم اقتراح رئيسهم بالذهاب الى الحرب في سوريا. أما تحالف قوى المعارضة فيرى أن هذا التحرك دون جدوى ويأتي في الوقت الضائع بغض النظر عن نوايا الموقعين على المذكرة.

القضية الأخرى التي تشكل هاجساً لحركة الاحتجاجات الحالية – كما يقول لي الدكتور فاروق محمد ابراهيم رئيس الهيئة السودانية للدفاع عن الحريات والحقوق - فتتمثل في الآليات والهياكل.

فمواقع التواصل الاجتماعي تشكل منصة إعلامية مؤثرة لكنها ليست هيكلا يحدد اهدافاً ومسارات، والمتابعة اللصيقة لمجريات الأمور تشير الى أن متوسط سن المحتجين حالياً يتراوح ما بين 15–20 عاماً، بالطبع مع وجود استثناءات.

وهنا يتعلق الأمر بفئة طلاب المدارس والجامعات، لكن وجود آلية تشكل غطاء للتحركات سيأتي بفئات عمرية جديدة إلى مسار الاحتجاجات. وهذا لا يعني فقط توسيع دائرة المشاركة الفئوية والمهنية، إنما ايضاً الوصول الى 133 محلية في 13 ولاية.

المستوى الثالث يتمثل في وجود حركات مسلحة تهدف إلى دحر النظام الحالي وتتحرك بشكل متوازٍ مع المعارضة المدنية السلمية. والإقصاء الذي مارسته الحكومة على أطراف العملية السياسية السلمية في السودان طوال العقدين الماضيين دفع بمجموعات كبيرة في الأقاليم إلى انتهاج العمل المسلح وسيلة للحصول على ما يسمونه حقوقهم المسلوبة.

إذن المعادلة التي تتشكل الآن هي وجود حركات مدنية نشطة في مراكز المدن الكبرى مقابل حركات عسكرية متمردة في أطراف الدولة بدءا بدارفور غرباً ومرورا بجنوب كردفان والنيل الأزرق وصولا إلى مناطق البحر الأحمر في الشرق.

أحد التحديات التي تواجه أي عملية انتقال ديمقراطي في السودان تكمن في ايجاد نقاط تلاقي لهذين المسارين، فديناميات العمل السياسي تختلف بل وتتناقض مع ديناميات العمل العسكري، والجماعات التي تمارس الحرب منذ سنوات تتحدث عن مرارات ومظالم كثيرة لا يكفي فقط تغيير النظام لتجاوزها كما كان الحال في السابق.

لكن الحقيقة الماثلة تؤكد أن المجتمع السوداني يعيش حراكاً سياسيا أخرجه من حالة الركود التي سيطرت لفترة طويلة وهو ما يضع الحركة السياسية والمجتمع المدني أمام مسؤوليات جسيمة خلال الفترة المقبلة.