"نحن الان أقدر على مواجهة الإرهاب" تلك الجملة جاءت ضمن لقاء مستعجل لوزير الخارجية الأمريكي بلينكن مع احدى قنوات التلفزة الامريكية، وبعد ساعات من دخول طالبان للعاصمة كابول، وهروب الرئيس أشرف غني الى خارج البلاد ونقل سلطاته للرئيس السابق حميد كرزاي وعبد الله عبد الله، كبير المفاوضين الأفغان.

قبل ذلك وعدت واشنطن بالإبقاء على تمثيل دبلوماسي لها في العاصمة (مطار كابول)، وكذلك وعدت بريطانيا، الا ان ما رشح من اخبار تؤكد مغادرة البعثتين لكابول بعد سقوط كافة المدن الأفغانية في قبضة طالبان وليس فقط العاصمة كابول والتي افترض الجميع ان طالبان سوف تتفاوض عليها وبشروط قد تحفظ للأطراف المتفاوضة معهم في الدوحة بعض ماء وجههم.

وبالعودة لتصريح الوزير بلينكن، وكيف يمكن ان يفسر سياسيا بعد هذا الاندحار الأمريكي بعد هذا الانغماس العسكري الطويل والذي دام عشرون عاماً. وتعود بي وقائع يوم 15 من أغسطس الجاري لمشهد من فيلم "قوة قوامها 12" (12 Strong)، والحوار في ذلك المشهد هو بين أمير الحرب الأفغاني عبد الرشيد دوستم، وقائد فصيل النخبة (القوات الخاصة الأميركية)، النقيب ميتشل نلسون، والحديث للجنرال دوستم "إن أطلتم البقاء في أفغانستان، فسوف تتحولون إلى قبيلة أخرى من القبائل المتناحرة في أفغانستان، وإن قررتم المغادرة، فسوف يكون ذلك بمثابة الهزيمة".

أخطاء الولايات المتحدة في ملفي غزو العراق وأفغانستان غير مسبوقة، نتيجة التخبط السياسي وليس نتيجة قابليتها العسكرية. فقد خلصت المؤسسة العسكرية الأميركية بعد حرب فيتنام، أنه من غير الممكن الانغماس العسكري المطول نتيجة عبء ذلك سياسيا واجتماعيا، وتأثيرات ذلك على جهوزيتها في مواجهة أزمات مستجدة. لذلك كان القرار في القبول بوقف القتال في العراق بعد وصول القوات الأميركية إلى منطقة الناصرية في عام 1991. عندها وضعت الولايات المتحدة الشروط الضامنة لاحتواء العراق، وتوظيف النصر (رأس مال سياسي) في ملفات أخرى (محادثات السلام في مدريد).

ربما مثلت إدارة الرئيس جورج بوش الأب آخر الإدارات الأميركية الراشدة سياسيا، والمدركة لمسؤوليات الولايات المتحدة ودورها القيادي على الصعيد الدولي، إلا أن من أعقبها من إدارات فقد فشل في فهم أو إدراك تلك المتطلبات. ويمثل أحد أكبر أخطاء الولايات المتحدة في أفغانستان، هو إفراطها في التفاؤل في نقل أفغانستان من واقع المجتمع العرقي القبلي المتقاتل، إلى الدولة الحديثة. ولو كان للولايات المتحدة القدرة على ذلك ولو بشكل نسبي، لكانت نجحت في باكستان حليفها السابق. أما استراتيجيا، فكان بالإمكان أن تعهد واشنطن لحلفائها (تحالف الشمال) مسؤولية احتواء وتحجيم طالبان في الأقاليم والمناطق الحدودية، في حين تتفرغ هي لبرامج تنمية المدن والحواضر لتمثل القاعدة الاجتماعية الصلبة، والقادرة على تثبيت واستدامة مشروع الدولة الحديثة.

ألا إن الولايات المتحدة كانت مغرمة بإعادة إنتاج تاريخ مماثل لإعادة إعمار أوروبا واليابان دون احتساب خصائص الأزمات التي أنتجتها حربها على الإرهاب، فالولايات المتحدة وحلفائها انتقلوا من خانة المحرر للشعوب إلى القوة المستعمرة. فهل ستستخلص الولايات المتحدة بعض الدروس من تجربتي الاحتلال، وهل سيقود ذلك لإعادة صياغة مفهوم جديد لشخصيتها السياسية تليق بمكانتها وارثها التاريخي. الذاكرة الأميركية قصيرة جدا، وغدا سوف تجد ما يشغل الرأي العام الأميركي ولن يلتفت أحدهم لذكرى أفغانستان. إلا أننا نحن من سيعايش ذلك الواقع، فما هو الموقف الأخلاقي والسياسي من إمارة أفغانستان الإسلامية مستقبلاً.