تصر وسائل الإعلام المندرجة تحت وصاية المحور الإيراني على التأكيد أن الرسائل الغربية بعد الأحداث الأخيرة التصعيدية، تحمل في طياتها رغبات برفع التوتر والاشتباك والعمل العسكري ضد إيران.

لكن محاولات التطمين هذه، الصادرة من جهة المحور بعد استعراض القوة التخريبية أو توجيه الرسائل الصاروخية، تبقى شيكات من دون رصيد، ما لم يتم صرفها في بنك الأهداف المتعلقة بالمفاوضات مع الولايات المتحدة ومن خلفها المجتمع الدولي.

بالتالي ستبقى في حيز المسكنات التي تتقلص فعاليتها، لتنتج مفعولا عكسيا عند الشعوب الخائفة من مغامرات المحور وهو يتلقى الضربة تلو الأخرى، ويكابر مؤكدا أنه وأذرعه يملكون من أوراق القوة والإرادة والعقيدة ما يحول دون هزيمتهم مهما كانت المخططات والمؤامرات التي تستهدفهم.

فما يحصل لإيران سبق وحصل لدول وزعماء في العالم الثالث عموما، وفي عالمنا العربي ومحيطه الإقليمي خصوصا.

وهو يزال يحصل منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية ونشاط الدول الكبرى ومعسكراتها المتنافسة او المتقاطعة مصالحها.. ودائما على حساب شعوب هذا العالم الثالث.

ويبين ذلك استعراض مسيرات زعماء "إلى الأبد" المبررة جرائمهم بحجة "القضية" التي تبدأ بتحرير فلسطين ولا تنتهي بالقضاء على أعداء الداخل.

فغالبيتهم كانوا أبطالا في بداية هذه المسيرات واستقطبوا جماهير تعاني سلفا من الخيبات والنكسات والنكبات بعدما فقدت الأمل بدولة ومؤسسات وعدالة، فكبرت حاجتها إلى مخلص ومعجزات تعيد لهم فردوسهم الضائع.

إلا أن هذه المسيرات سرعان ما كانت تحول إلى ديكتاتوريات متوحشة، كل من ينتقدها هو خائن ويستحق الموت.

وغالبا ما كانت القوى التي تتحكم بالمنطقة هي التي تساهم برفع "الزعيم" وتحول دون سقوط نظامه، سواء عبر الدعم العلني او عبر العداء المدروس والممنهج لتصويره بطلا خارقا يحصد التأييد ما دام يواجه العدو وإن على حساب شعبه وأسس دولته لأن "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، حتى تسقط ورقته ولا يعود يلبي الأهداف التي تم "تزعيمه" بموجبها، أو يكون قد نفذها وانتهى دوره بعد انتفاء الحاجة إليه، أو بكل بساطة تغيرت الأجندة المرسومة للمنطقة.

حينها يبدو بديهيا الاستنتاج بأن كل طلعة لزعيم او نظام، تعقبها نزلة. وفي الصعود والنزول قضاء على اقتصاد البلد واغتيال حريات الأفراد وجعل الشعوب تترحم على ديكتاتوراها السابق بفضل الوريث الآتي بانتخابات "شفافة وحرة ونزيهة "، لا مثيل لها إلا في عصر الظلمات الذي تعيش هذه الشعوب تحت رحمته.

فلنأخذ مثلا منظمة التحرير الفلسطينية التي حوَّلت الكوفية الى رمز عالمي للثوار، وأصبحت مصدر تهديد لرؤساء وزعماء وأنظمة، واستفحل نفوذها في لبنان وغلبت تجاوزات قادتها، وتحديدا في أزقة بيروت وقرى جنوب لبنان، جوهر القضية الأساسية، فنفر منها حتى من كان يؤمن بها، ما مهَّد للاجتياح الإسرائيلي لبنان عام 1882، فاقتلع المنظمة من أصلها ونقلها إلى تونس ومن هناك إلى فلسطين، حيث قامت إسرائيل بتصفية الرئيس الفلسطيني واغتياله بالسم على البارد، لتتابع مشاريعها الاستيطانية واعتداءاتها على الشعب الفلسطيني وسط صمت عالمي وعربي.

وفي طلوع المنظمة ونزولها دفع لبنان ثمنا باهظا، عاش خلالها حربا أهلية لم تنته بخروجها. لكن القضاء عليها كان بالتدريج المميت سواء للبنان او للقضية الفلسطينية.

والمتابع لتسارع الأحداث على جبهة المحور الإيراني، لا بد أن يعثر على الكثير من نقاط مشتركة تكرر الأحداث وتستنسخ التاريخ. فالأيام الأخيرة شهدت أعمالا أمنية وعسكرية تحمل في طياتها "براعم" حرب لا تزال غير علنية وغير مباشرة بين طهران وواشنطن وتل أبيب من بحر العرب وخليج عُمان إلى جنوب لبنان، حيث تفوَّق الفيديو النابض بشتائم لدرة التاج الإيراني في قرية لبنانية على خبر الصواريخ المتبادلة، ليسجِّل سابقة تضاف إلى عملية الثأر التي حصلت قبل أسبوع في منطقة خلدة ضد أفراد من "حزب الله" وهتكت هيبته.

وبالتأكيد لن ينفع في هذا التطاول على الحزب، الزجر والنهر اللذين مارسهما الأمين العام حسن نصر الله ليذكر من نسي بأنه يسيطر على لبنان ويحكمه بأمر إيران.

فالخطابات لا تلغي ما حصل، ذلك أن وسائل الإعلام العربية والعالمية توقفت عند الرسائل الشعبية الرافضة لهذا التحكم أكثر مما توقفت عند الحدث بحد ذاته. والأمور مرشحة للتصاعد، ليس فقط في لبنان، ولكن في العراق وربما في سوريا، حيث بدأت الإشارات على زعزعة القبضة الحديدية للمحور الإيراني، تشي بانطلاق العد التنازلي وأن بالتدريج المميت وسط جحيم تعيشه هذه الشعوب، فلا يعود يهمها "تكسُّر النصال على النصال"، لتهاجم إن بالشتائم أو بالرصاص أو برفع شعارات تطالب بمقاومة الاحتلال الإيراني، بعد تصنيفه مصدر البلاء والانهيار، ولسان حالها يقول "أنا الغريق فما خوفي من البلل".