من بين كل الكائنات يتميز الإنسان بأنه الكائن الحريص على "تسجيل" خبراته وتجاربه الحياتية ونقلها للأجيال التالية بطرق تطورت عبر التاريخ من الرسم على جدران الكهوف والنقش على جدران المعابد والمقابر إلى "كتابة التاريخ" وتدوينه.

وكتابة التاريخ -بدورها- مرت بمراحل متتالية، فقد كانت كتابته أولًا تتم بشكل يجمع بين الواقع والأسطورة، ثم قام هيرودوت بفصل التاريخ عن الأسطورة وهو ما استحق عنه لقب "أبو التاريخ".

ورغم تأثر الرومان بالثقافة الإغريقية إلا أن رؤيتهم للتاريخ وكتابته كانت شديدة ضيقة الأفق، فقد تعاملوا مع أحداث التاريخ باعتبارها مجرد موضوعات يتم انتقاء ما هو مناسب منها لحشد الجماهير وبث الحماسة في صفوفهم في أوقات الحرب وصراعات السياسة.

ثم شهدت كتابة التاريخ مدارس متنوعة من أبرزها "مدرسة أوروبا العصور الوسطى".

وكتابة التاريخ في العصور الوسطى تأثرت بفكر القديس أوغسطين الذي قدم التاريخ على أنه "المعركة بين كلا من مدينة الرب ومدينة الشيطان" وأن البشر ما هم إلا بيادق شطرنج على رقعة تلك المعركة.

وفي بلاد العرب قبل الإسلام، كان التعامل مع التاريخ يتم إما من منطلق "تمجيد أعمال الملوك" -وهو النمط الذي كان سائدًا في اليمن القديم- أو من منطلق التفاخر بالشعر بانتصارات القبائل وأنساب الأبطال وعشائرهم.

وبعد الإسلام، وخلال مرحلة ميلاد الحضارة الإسلامية شهدت كتابة التاريخ نقلة نوعية عندما نظر المسلمون للتاريخ على أنه "دروس وعبر" من حياة الأمم السابقة ينبغي على الإنسان أن يتأملها ويتعلم منها ما يفيده مستقبلًا في تجنب أخطاء الماضي والاستعداد للمستقبل، وهي نظرة ناضجة راحت تتطور عبر قرون الحضارة الإسلامية حتى وضع لها العلامة عبد الرحمن بن خلدون (القرن 14 ميلاديًا) تعريفه العبقري لعلم التاريخ في مقدمة كتابه "العبر وديوان المبتدأ والخبر.

إنه علم يبدو في ظاهره مجرد حكايات ولكنه يحتوي دروسًا من تواريخ الأمم تجعلنا نتأمل الماضي لنستخلص قوانين وقواعد للاجتماع الإنساني نتمكن من خلالها من فهم الحاضر واستقراء المستقبل وبالتالي الاستعداد له.

ذلك التعريف الذي وضعه ابن خلدون هو ما يوصف بـ"القراءة المستقبلية للتاريخ" التي تتعامل معه كعلم عملي مفيد وهام للإنسانية ولـ"استمرار حركة التاريخ".
وبعكسها تكون القراءة الماضوية والتي تقتصر على استحضار أحداث الماضي للتفاخر الفارغ بأمجادها أو البكاء على أطلالها.

وهنا مربط الفرس، فتلك هي القراءة التي يتبناها الإخوان -وتيارات الإسلام السياسي بشكل عام- للتعامل مع التاريخ.

فالمتأمل في كتاباتهم للتاريخ يمكنه أن يجد فيها عدة عناصر من مكونات القراءة الماضوية، هذه العناصر هي ما يلي:

- التعامل مع أحداث التاريخ باعتبار أن محورها الرئيسي هو "المسلمون" الذين تدور حولهم حركة التاريخ، بينما يلعب "الآخر" دور العدو أو الكومبارس.

- الإغراق في التفاخر بأمجاد الماضي واختصار أسباب تلك الأمجاد في أسباب "معنوية" بحتة ترتبط عادة بالالتزام الديني الإسلامي مع إهمال الأسباب المادية العملية لأية انتصارات أو إنجازات.

- في المقابل، تشجيع لسلوك "البكاء على أطلال الماضي" وإرجاع ضياع أمجاده لتخلي المسلمين عن نموذج الالتزام الديني السالف ذكره.

- خلق "المظلومية التاريخية" والترويج لها.. فالآخر دائمًا متآمر عدواني ظالم يعاديك فقط لأنك أنت دون أي اعتبار للأسباب السياسية والاقتصادية والأطماع المادية كعوامل في خلق العداوات والصراعات وتحريك الصدامات والحروب.

تلك القراءة الإخوانية للتاريخ ليست اعتباطية وإنما هي تنطلق من فكرهم التأسيسي، كيف؟ دعونا نرى معًا:

- فتمحور التاريخ حول "المسلم" يوجه المتأثر بقراءتهم تلك لسؤال "من هو المسلم؟" فتكون الإجابة المبطنة هي أنه ليس كل من يعتنق الدين الإسلامي وإنما هو "ذلك الذي ينتمي لنمط المسلم الذي تسوّق له جماعة الإخوان المسلمين دون غيره من الأنماط المتنوعة" مما يفيد ادعاءهم أن جماعتهم قد قامت لأجل "رد المسلمين للنموذج الصحيح" وطبعًا "الصحيح" هو كل ما يوافقهم.. وبالتالي فهم من ناحية يخلقون حالة عداء للآخر أيًا من كان تمهيدًا لتوسيع دائرة العداء تلك لتشمل كل من هو ليس منهم أو من أتباعهم.

- الإغراق في التفاخر بالأمجاد مع تضليل المتلقي عن الأسباب العملية لها يخدمهم من ناحية إعماء الأنظار عن افتقارهم لأي برنامج عملي واختصار برنامجهم هذا في مجرد شعارات.. فأسباب الانتصارات والإنجازات يتم اختصارها في "التمسك بالعقيدة والالتزام بالعبادات والإيمان العميق والحماس والحمية للدين" دون غيرها من عوامل عملية كالأخذ بأسباب الحضارة والتقدم، والاستفادة من التجارب والخبرات السابقة، والدراسة العميقة للقرارات قبل اتخاذها.. إلخ.

- وأما عن "البكاء على الأطلال" فإن الفشل عندهم يرجع إلى "خمول الحماس للدين وإهمال العبادات وضعف الالتزام".. وهو ما يجعل المتلقي عند اقتناعه بتلك الأفكار ينظر لما يُظهرون من التزام تعبدي أو تشدد سلوكي أو تعصب عقائدي أنه هو "الطاقة" التي ستبعث تلك الأمجاد الغابرة وتعيد إحياء "الحضارة الإسلامية".

- وخلق المظلومية التاريخية والمتاجرة بها هو من أكثر ما يتمسكون به، فالآخر لم يحاربك ويعاديك بسبب عوامل مادية واقتصادية وسياسية طالما حركت الحروب والصراعات منذ فجر التاريخ، ولكنه يعاديك فقط لأنك "أنت".. وبالطبع ف"أنت" هو فقط "المسلم الموافق لنموذجهم".. ذلك العنصر من عناصر قراءتهم وكتابتهم للتاريخ هو الأكثر إفادة لهم.. فهم يقودون المتلقي من إيمانه بـ"المظلومية" المستمرة لنمطهم إلى أن يفسر أية عداوات أو ضربات تتعرض لها جماعتهم المتطرفة لأنها "بسبب تآمر العالم علينا" وليست بسبب تطرفهم ولا إقصائيتهم ولا مبادرتهم العالم كله بالعداء.. وهي ممارسة يتمسكون بها مع كل حدث كبير يصيبهم منذ اغتيال مؤسسهم حسن البنا مرورًا بإعدام منظرهم وكاهن معبد تطرفهم سيد قطب وصولًا إلى فض اعتصامهم الإرهابي في ميدان رابعة العدوية.. فمن منطلق تلك المظلوميات والمتاجرة بها يجتذبون المتعاطفين معهم من بسطاء التفكير.

تمحور للتاريخ حول النموذج الخاص بهم... استغلال للتاريخ للحشد ونشر الحماس.. إغراق في الماضوية... كل هذا يؤكد أن ما يقوم به من يكتبون التاريخ من زاوية إخوانية إنما هو مؤامرة على الغرض الحقيقي من علم التاريخ، ومحاولة نشطة لنشر الرجعية وإعادة عجلة كتابة التاريخ عند العرب والمسلمين قرونًا إلى الوراء.

أي أن أولئك الذين يروجون لأنهم "جاءوا لإعادة إحياء الحضارة الإسلامية" لا يتورعون عن هدم واحد من أهم إنجازات ومميزات تلك الحضارة.

وللحديث بقية

-يتبع-