منذ اندلاع الصراع في ليبيا عام 2011 أبدت الولايات المتحدة فتورا في التعاطي مع هذا الملف، لكنها، مع ذلك، لعبت دورا سياسيا ولوجيستيا مساندا للحلفاء في أوروبا، لا سيما فرنسا وبريطانيا. على أن هذا الفتور تطور إلى انكفاء شبه تام بعد قيام مقاتلين إسلاميين (جماعة أنصار الشريعة) بالهجوم على القنصلية الأميركية في بنغازي (سبتمبر 2012)، ما تسبب بمقتل السفير الأميركي في ليبيا وثلاثة من الموظفين الأميركيين.

أطلق باراك أوباما على سياسة بلاده في ليبيا مفهوم "القيادة من الخلف"، ولم يتغير هذا المفهوم كثيرا في بدايات عهد الرئيس الحالي دونالد ترامب، بالنظر إلى أن الرجل الذي كان وعد ناخبيه بالانسحاب من صراعات العالم، لم يكن يريد توريط بلاده في صراع جديد.

ومع ذلك فإن أحداً لم يصدق بأن الولايات المتحدة ماضية في إهمال ليبيا والصراعات الدائرة حولها، ذلك أن لهذا البلد أهمية جيوسياسية واقتصادية. فليبيا تطل على الشواطئ الجنوبية لأوروبا على البحر المتوسط، وليست بعيدة عن القواعد العسكرية الأميركية في المنطقة، لا سيما في إيطاليا. وليبيا هي إحدى بوابات أفريقيا الرئيسية التي تمر من خلالها موجات الهجرة غير الشرعية كما أعمال التهريب والدفع بالإرهاب نحو أوروبا.

والظاهر أن روسيا بقيادة الرئيس فلاديمير بوتين قد أجبرت واشنطن على الإفراج عن ملامح سياسة أميركية آخذة بالتصاعد بشأن ليبيا. 

أطلقت منابر الكونغرس وجنرالات البنتاغون وبيانات البيت الأبيض ووزارة الخارجية مجموعة من المواقف المتسقة المحذرة من أي تواجد عسكري روسي في ليبيا. بدا أن واشنطن، التي تحدثت عن إرسال موسكو قاذفات إلى ليبيا وعن أنشطة مقاتلي شركة فاغنر الروسية في هذا البلد، أكثر قلقا، وهي البعيدة، من الحلفاء الأوروبيين، وهم الأقرب إلى ليبيا والمطلين عليها من الضفة المقابلة للبحر المتوسط.

هنا تتعقد الخارطة الجيوسياسية للصراع الإقليمي والدولي حول ليبيا. وهنا تكمن صعوبة المهمة لدى الأميركيين الذين يراقصون في هذا الصراع حلفاء تاريخيين قبل أن يصارعوا خصمهم الروسي العتيق. وعليه، فإن واشنطن تجهد بصعوبة لإيجاد نقطة توازن مستحيلة ترضي من خلالها الحلفاء في قبرص واليونان وفرنسا وتركيا ومصر... إلخ. وعليه، فإن كافة أطراف هذا الصراع، بما في ذلك روسيا أيضا، ينظرون إلى الموقف النهائي للولايات المتحدة بصفته بوصلة تحدد مستقبل أي تسوية في ليبيا.

بدا أن الثقة مفقودة بين الحلفا. تحدثت فرنسا عن الخشية من "سورنة" ليبيا على النحو الذي يتيح قيام شراكة حرب بين روسيا وتركيا على منوال تلك القائمة بينهما في سوريا. بدا أن تصاعد الموقف المصري واحتشاد أعراض تدخل القاهرة العسكري في ليبيا ينهل حيثياته من الخشية من تفاهمات انتهازية قد تجري بين موسكو وأنقرة مستفيدة من رمادية الموقف الأميركي وارتباكه. وبدا أيضا أن تحرك القاهرة في الشق الملوّح بالتدخل العسكري وفي إعلان المبادرة السياسية المقترحة للحل، دفع واشنطن لتطوير مقاربة تأخذ بعين الاعتبار جسامة تطور موقف القاهرة بشأن ليبيا.

غير أن مواقف كافة الأطراف بدأت تتدحرج وفق آلية تأمل واستشراف لموقف واشنطن. في البال أن التمدد التركي صوب ليبيا يستفيد من شبهة غض طرف أميركي طالما أنه يعرقل طموحات بوتين في تثبيت إطلالة جديدة على البحر المتوسط. وفي بال تركيا نفسها أن أحلامها الليبية قد تتبدد بسهولة إذا ما أبرم الروس والأميركيون والأوروبيون تفاهمات بشأن مخارج المأزق الليبي.

كشف الصراع حول ليبيا عن تشكل اصطفافات إقليمية ما زلنا نقرأ سطورها في ما قد يطرأ على مواقف الجزائر وتونس والمغرب وتبدل المزاج في أفريقيا. ولئن أخذت أشكال الصراع حول ليبيا في تونس أعراضا مربكة، فذلك مرده إلى أن غياب اتفاق دولي حول هذا الملف لا يوحي لتونس بوجهة وجب الاتساق معها.

تعود واشنطن لتفرض وزنها كزعيمة لهذا العالم من خلال ما قد تدلي به في ليبيا. لا يدفع الأميركيون بالأمور نحو حسم ما.حتى تلويحهم، من خلال "أفريكوم"، بإرسال قوات للحلق الأطلسي إلى تونس (لرد الاختراق الروسي في ليبيا)، تراجعوا عنه ووعدوا بها (القوات الأطلسية) تدخلا تدريبيا فقط. بيد أن الولايات المتحدة باتت تمسك بصمام المتاح والممنوع، وتفرض شروطا ما زالت تمنع الأمين العام للأمم المتحدة من تعيين مبعوث خاص إلى ليبيا يخلف المبعوث المستقيل غسان سلامة.

على هذا تعود إدارة ترامب للعب دور القيادة من الأمام في ليبيا بديلا عن بدعة إدارة أوباما في القيادة من الخلف. بيد أن واشنطن تأتي متأخرة للانخراط داخل ميدان صراع سبقها إليه كثير من اللاعبين. أوروبا تمقت الثنائية التركية الروسية التي تعمل على حصارها هذه المرة جنوبا من خلال ليبيا. وأوروبا تمقت العين الأميركية التي لا تريد أن ترى ما يمكن أن يفسده أردوغان لها مستفيدا من دلال واشنطن وتودد موسكو.