من داخل الجدل في الولايات المتحدة حول مكافحة جائحة كورونا الموجعة وضرورة إعادة تشغيل الاقتصاد في البلاد، تقرر الإدارة الأميركية للرئيس دونالد ترامب الانسحاب من اتفاقية الأجواء المفتوحة، بما يرفع من نسب التوتر في علاقات واشنطن مع أطراف الحرب الباردة المندثرة.

اقترح فكرة "الأجواء المفتوحة" الرئيس الأميركي دوايت أيزنهاور عام 1955، بحيث يتاح لكل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي تسيير رحلات استطلاع جوية فوق أراضيهما.

رفض الروس المبادرة آنذاك واعتبروها مناورة للتجسس، غير أن الرئيس الأميركي الأسبق جورج دبليو بوش أعاد نبش الفكرة مرة أخرى في مايو 1989، فوقعت اتفاقية "الأجواء المفتوحة" في 24 مارس 1992، وشاركت فيها نحو 35 دولة، وأصبح عددها 34 بعد انسحاب دولة قيرغيزستان.

كان هدف الاتفاقية أن يكون لكافة الدول عيون على بعضها البعض، بما يعزز من مستويات الثقة بينها، ذلك أنها تبيح لكل دولة الحق في إجراء رحلات استطلاع جوية قصيرة الأجل وغير مسلحة فوق مناطق الدول الأخرى دون قيود، لجمع بيانات عن القوات والأنشطة العسكرية.

بيد أن شيئا ما دفع "الدولة العميقة" في واشنطن للخروج بقرار الانسحاب.

الأميركيون يتحدثون عن أن الأمر يأتي ردا على عدم احترام الروس للاتفاقية، لا سيما رفضهم لقيام الولايات المتحدة بطلعات جوية في سماء روسيا وفق ما تسمح به الاتفاقية.

وكان وزير الدفاع الأميركي مايك إسبر، قد أعلن في مارس الماضي أن روسيا تنتهك اتفاقية الأجواء المفتوحة وأن روسيا تمنع مقاتلات بلاده من التحليق فوق مدينة كالينينغراد المطلة على بحر البلطيق، وأيضا بالقرب من جورجيا، كما تنص الاتفاقية.

وأن تمنع موسكو واشنطن من أن يكون لها عيونا ترى ما يطوره الروس من قدرات عسكرية، فذلك سببه حكما، برأي البنتاغون، أن روسيا تقوم بأشياء لا يجب أن تُرى، وأن تنسحب الولايات المتحدة من الاتفاقية، فذلك أيضا يشي أن الأميركيين ينوون أن يقوموا بما لا يجب أن يراه الآخرون.

ولن يغفل أي مراقب عسكري أن يربط ما بين قرار الانسحاب من الاتفاقية مع ما أعلن في واشنطن عن خطط لإجراء تجارب نووية كانت قد توقفت منذ عام 1992، ذلك أن الولايات المتحدة ترسل إشارات واضحة أنها تعمل على سباق تسلح نوعي جديد يصون تفوقها العسكري ويردع ما تطمح إليه روسيا والصين من مستويات عليا في القوى الاستراتيجية العسكرية.

والمرجح أن ما يشتم منه نزاعا بين روسيا والولايات المتحدة ليس إلا واجهة، وربما مزيفة، للنزاع الحقيقي بين واشنطن وبكين.

وما الحملة التي يشنها ترامب وإدارته ضد الصين حول انتشار فيروس كورونا، إلا أداة إضافية من أدوات الضغط الذي ستمارسه الولايات المتحدة في مجالات عدة، سياسية (تايوان) تجارية (العودة عن الاتفاق الأخير) واقتصادية (الحديث عن عقوبات) وأيضا عسكرية بات لا بد منها.

يختلف "اكتشاف" الصين من قبل ترامب عن اكتشافها من قبل الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون.

لم تكن الصين حين نجح هنري كيسنجر في إنجاز الانفتاح بين البلدين عام 1972 تمثل خطرا استراتيجيا على الولايات المتحدة، بل أن هذا الاقتراب الاستراتيجي التاريخي بين البلدين كان هدفه الأول (وهذا ما حصل) هو إبعاد بكين عن موسكو-الاتحاد السوفياتي آنذاك.

باتت الولايات المتحدة، خصوصا في عهد ترامب، تعتبر أن الصين تتعملق في كل المجالات وأن قوتها النووية التي كانت تساوي القوى النووية لدول متوسطة القوة مثل بريطانيا وفرنسا، صارت تتعاظم على نحو لم يعد مسموحا وفق معايير الأمن الاستراتيجي الأميركي.
وإذا ما ذهب نيكسون قبل 4 عقود للالتفاف على الخطر السوفياتي من خلال الشراكة مع الصين، فإن في الولايات المتحدة من يعتقد أن ترامب - المعجب بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين- سيذهب إلى تطوير العلاقات الأميركية مع روسيا على نحو يرمي إلى إبعاد موسكو عن بكين.

والأمر ليس خيالا روائيا، ذلك أن الحذر الروسي من الصين بنيوي حقيقي حتى لو أوحت المظاهر بغير ذلك، وأن روسيا أشد قلقا من الولايات المتحدة من تعاظم القوة العسكرية والنووية للصين.

ولئن ذهبت واشنطن إلى قلب الطاولة من خلال الانسحاب من اتفاقية الأجواء المفتوحة، فإن هدف ذلك الضجيج بالنهاية هو إعادة كتابة كافة الاتفاقيات الاستراتيجية الكبرى، بحيث تصبح الصين جزءا منها، وأن كثافة التواصل الأميركي الروسي مقابل برودته بين واشنطن وبكين، مؤشر لا يستهان به، وتفهمه الصين جيدا، بأن للعبة الأمم صولات وجولات وبيادق ليست في الحسبان.