يتبجحون فيقولون إن عهد محمد علي باشا وخلفاءه وما فيه من إنجازات مضاف لرصيد الحكم العثماني لمصر...

وكأنما لم يكن تربع محمد علي باشا على عرش مصر أمرًا مفروضًا بقوة الإرادة الوطنية المصرية، تورمت له أنف المحتل العثماني الذي لم يكف عن محاولاته للإطاحة بالوالي الذي كانت ولايته بداية النهاية لهذا الاحتلال الغاشم.

وكأن إنجازات محمد علي كانت بفرمانات عثمانية ولم تكن بتخطيطه وإرادته ورؤيته الخاصة..

-نهاية حقبة مظلمة:

لسنا هنا في سياق لتقييم سياسات وعهد محمد علي فثمة كتب تناولت ذلك باستفاضة لعل أهمها -في رأيي- كتاب "الفرعون الأخير محمد علي" لجيلبرت سينويه وكتاب "مصر في عهد محمد علي باشا" للدكتورة عفاف لطفي السيد مارسو.

ولكننا في سياق لإقرار أمر واقع هو أن مصر بعد العام 1805م، ليست كما كانت قبله، بل كانت إرهاصات ذلك عند اجتياح المحتل الفرنسي الأراضي المصرية وإدراك المصري أن خضوعه للسلطان العثماني المتربع في الأستانة مقابل قيام هذا الأخير بحمايته وحماية "بلاد المسلمين" ما هو إلا أكذوبة كبيرة..

تلك الصدمة في الأكذوبة العثمانية أدركها محمد علي بدهائه الشديد، وأجاد اللعب على أوتارها حتى تربع على كرسي الحكم في قلعة الجبل..

وبينما كان الداهية الألباني الأريب يخطط لكيفية إقامة مملكة مستقلة لنفسه ولأسرته في مصر، كان العثمانيون يعيشون "حالة إنكار" لحقيقة أنهم لم يعودوا سادة هذا البر، وأنهم لم يبق لهم من الأمر سوى الاسم والدعاء وتلك الشكليات البروتوكولية..

وعندما رضخ الباب العالي لطلب الزعامات الشعبية المصرية بتعيين محمد علي واليًا على مصر في 1805، وعندما خاب مسعى العثمانيون في العام التالي للإطاحة به ونقله لولاية أخرى وإعادة مصر لحظيرتهم، نتيجة تدخُل الزعامات الشعبية مرة أخرى ومطالبتها باستمراره واليًا، أدرك محمد علي باشا أن الطريق قد صار مفتوحًا أمامه لوضع نهاية لحقبة تاريخية مظلمة والتأسيس لحقبة تالية مختلفة تمامًا..

-لعبة "قبل وبعد":

كيف نميز بين عصر الاحتلال العثماني الفعلي لمصر وبداية العصر التالي للرد على من يحاولون "التحشُر" في عهد محمد علي من العثمانيين الجدد وأتباعهم؟

دعونا نلعب لعبة صغيرة اسمها "قبل وبعد".. فلنتناول كلا من عصر الحكم العثماني ثم عهد محمد علي باشا ونذكر ما كان قبلًا وما كان بعد..

قبل الاحتلال العثماني لمصر سنة 1517م كانت مصر دولة مستقلة لها إدارتها ومؤسساتها وخططها وسياساتها الخاصة، ولها ثقلها الخاص، بها حركة ثقافية وعلمية وحضارية نشطة وثرية..

بحلول العام 1805م-قبيل تولي محمد علي حكم مصر-كانت مصر مجرد ولاية عثمانية، منهارة حضاريًا، لا ثقل خارجي لها ولا استقلال لمؤسساتها ولا خططها، لا منظومات تعليمية ولا صحية بها، مستنزفة اقتصاديًا لصالح الأستانة..

بحلول العام 1848م-عام رحيل محمد علي باشا- كانت مصر قد صارت دولة ذات مساحة استقلال فعلي كبيرة، لها مؤسساتها الخاصة المستقلة عمليًا، بها منظومات اقتصادية وصحية وتعليمية وصناعية قوية، ولها جيشها الخاص، ولديها سياسات وطموحات مستقلة إلى حد كبير..

صحيح أنها قد بقيت رسميًا تابعة للسلطان العثماني، إلا أن هذا الأخير لم يكن ليستطيع فرض أوامره عليها إلا بحدود، وبعد شد وجذب وفقط لو تدخلت الدول الأوروبية الكبرى لصالحه بالقوة لموافقة هذا الأمر السلطاني أو ذاك لبعض سياساتها..

هذا يقودنا لنتيجة مضحكة لتصديق ادعاء من يقولون بأن إنجازات عهد محمد علي باشا هي من "فضائل" الحكم العثماني، ألا وهي أن الحكم العثماني هو الذي جعل مصر تستقل عن الإمبراطورية العثمانية وجعل القاهرة تناطح إسطنبول وتشاكسها من حين لآخر!

-الاختلاف الصارخ في السياسات:

ومجرد مقارنة سياسات محمد علي مع السياسات العثمانية لحكم وإدارة مصر تؤكد حقيقة أنه يمثل عهدًا منفصلًا عن عهود الحكم العثماني..

فبدايةً يأتي إشراكه المصريين في الجيش المصري الوطني.. صحيح أنه لم يكن يثق كثيرًا في كفاءتهم لتولي المناصب القيادية، وأنه كان -كما يبدو من خطابه- يعرب أحيانًا عن نظرة سلبية للمصريين كأتباع لا متبوعين، ولكن ذراعه الأيمن عسكريًا المتمثل في ابنه إبراهيم باشا كان على العكس يثق بالمصريين ويؤمن بهم بشكل واضح جدًا.. ويجعل منهم ثقاته ويعبر عن إعجابه بقوتهم وشجاعتهم..

ويعرب أكثر من مرة أنه يعتبر نفسه مصريًا لأنه لم يعرف وطنًا سوى مصر منذ حداثة سنه، أي أن المصري وجد لأول مرة منذ قرون حاكمًا يستطيع أن يحرر المقاتل الكامن بداخله من أطنان غبار السنين المتراكم على طاقته القتالية قياديًا وميدانيًا..

كذلك حرص محمد علي باشا على إقامة منظومة تعليمية قوية وإرسال البعثات التعليمية والتدريبية للخارج ليؤسس لقاعدة من المعلمين المصريين، طاردًا ركام الجهل الجاثم بثقله على صدر مصر منذ نعق غراب الشؤم بسيطرة سليم الأول العثماني عليها واتباعه وخلفاؤه سياسة نشر الجهل بها..

وكان يهتم بالتعليم إلى حد مطالبته المبعوثون للخارج بإرسال تقارير دورية عما تعلموه وما استفادوه من رحلاتهم ودروسهم... (ملاحظة: محمد علي باشا بقي أميًا حتى سن الأربعين عندما علّم نفسه بنفسه، وابنه وشريك حكمه إبراهيم باشا كان مثقفًا جامعًا للكتب. مما يعكس بعدًا نفسيًا للاهتمام بالعلم).

وأيضًا يأتي اهتمامه بالمنظومة الصحية خروجًا عن السياسة العثمانية التي أهملت الصحة حتى صارت الأوبئة الزائرة والأمراض المتوطنة تصول وتجول منتزعة أرواح وقوى المصريين، وحتى تحالف الجهل مع المرض لنشر الخرافات والممارسات الخزعبلية للتطبيب الشعبي.. فتلفت محمد علي حوله باحثًا عن أهل الخبرة واستعان بقامة طبية محترمة هي الفرنسي "كلوت بك" ليؤسس لمنظومة صحية لم تحظ بها إسطنبول نفسها!

وصارت لمصر مؤسسة حاكمة ومؤسسات تدير ثروات البلاد وطاقاتها، وغُرسَت بذرة أن يكون لها جيشً وطنيً صار على مر العقود ركنًا في حياتها، وبدأت تتكوّن تلك الطبقة من المثقفين والمتعلمين التي أفرزت بعد ذلك "زعامات الحركة الوطنية" للتحرر سواء من الاحتلال البريطاني لاحقًا أو من أي احتلال سواء كان بريطاني أو تركي..

وأصبحت مصر بلدًا جاذبًا للخبرات والطاقات والاستثمارات بعد أن كانت منذ سنين قليلة قُطرًا بائسًا تعشش فيه الكآبة ويُقتَل فيه الطموح.

ولو ذكرنا مظاهر تحطيم محمد علي باشا قيود ومفاسد السياسات العثمانية العتيدة لحكم مصر وسحق طاقاتها لضاق المجال، فأحيل القارئ في ذلك للكتبان سالفا الذِكر.

الخلاصة هنا أن محمد علي أدرك أن مصر تستحق أكثر مما هي فيه، وأن المصري يستطيع أن يحقق ما هو أكثر من أن يكون مجرد "فلاح خير سيز نار سيز"، وأن العثمانيين قد أجرموا في حق هذا البلد بتحييده عن الاشتراك في حركة التاريخ الإنساني!

وليس هنا المجال لتحليل نواياه في ذلك وارتباط سياساته بأغراضه الشخصية، ولكن ثمة أمر واقع أنه قد بث في مصر والمصريين طاقة بناء طالما كانت محبوسة في الأسر العثماني..

-ختامًا:

لو كان محمد علي وعهده من "الأيادي البيضاء" المزعومة للعثمانيين، فلماذا إذن حاربوه منذ أول يوم في حكمه؟ لماذا حاولوا إقصاءه مرارًا أو كسر إرادته؟

فالباب العالي لم يكن ليقبل بحاكم قوي طموح ذو طاقة خلّاقة كمحمد علي باشا.. ذو سياسة كفيلة بجعل القاهرة ندًا لإسطنبول..

فكان لا بد من الصدام العنيف بين وطن يُبعَث من جديد، ومحتل عائش في مجد وهمي وسيادة زائفة..
فكان على الدولة المصرية الناشئة الطامحة للاستقلال أن تلقن المتغطرس العثماني درسًا قاسيًا!