تغادر الإذاعة لكنها لا تغادرك، تبتعد عنها، لكن قلبك يبقى معلقا بها، كل شيء فيها له وقع خاص، أثيرها ساحر، ميكروفونها آسر، وجمهورها الأقرب على الإطلاق.

تعلقتُ بالإذاعة مبكرا،  والسبب والدي، الذي غرس بذور حبها في وجداني، حيث كان المذياع أنيسه الدائم، لذا يتحفه بجرعات إخبارية وبرامج تثقيفية راقية، وألوان موسيقية تنعش الروح، وفي مقدمتها الطرب.
 
المثير في كل ذلك رباطة جأشه، وصبره على خشخشة المذياع وتداخل ذبذباته، فغالبا ما تستمع لإذاعتين أو ثلاث في وقت واحد.

ورغم أن الأمر يصل حد الإزعاج، لا يمل أبي ضبط موجاته الصوتية، وهنا تكمن قوة الراديو وسحره.
 
في حوشنا نشأت علاقتي بالإذاعة، ونما داخلي شعور غريب، كيف تصلنا كل هذه الأصوات عبر هذا الصندوق العجيب؟ وطبعا لطفل صغير مثلي آنذاك، لا يمكن أن تقنعه بالأمور الفيزيائية والعلوم الدقيقة، مهما حاولت.
 
من الإذاعات التي كنا نلتقط شاراتها فضلا عن الإذاعة الجزائرية، إذاعة مونتي كارلو، الإذاعة التونسية، وخليط من إذاعات ليبية وفرنسية وإسبانية وأفريقية، لكن الإذاعة الأكثر تميزا على الإطلاق كانت بي بي سي.
 
نعم كنا نتنظر على أحرّ من الجمر أجراس ساعة بيغ بين، وأصوات كبار مذيعيها، حسام شبلاق، أيوب صديق، محمود المسلمي، محمد صلاح الصيد، هدى الرشيد، مديحة المدفعي، فؤاد عبدالرزاق وغيرهم، حيث شكلت تلك الأصوات، في ما بعد مرجعا مهما بالنسبة لي في علم الصوتيات وفنون التقديم الإذاعي.
 
وبمرور السنين، كان الصوت أول ما قمت بتدريبه، وعملت جاهدا على صقله، ارتكزت في ذلك على قاعدة ذهبية، تلقنتها في الحركة الكشفية "التعلُّم بالممارسة".. فكلما حاولت وجربت وقمت بمحاكاة غيرك، ستصنع لك طريقا خاصا في النهاية.
 
وعلى عكس هواتف الجيل الخامس في يومنا، حيث يمكنها صنع الأعاجيب، عبر تسجيل الصوت وتنقيته وإدخال المؤثرات عليه، كنا نعتمد على طرق تقليدية في التسجيل، عبر أجهزة مذياع خاصة، وشرائط الكاسيت.
 
مازلت أتذكر كيف قمنا بإنشاء إذاعة في بلدتنا "الجديدة"، حيث كنا نبث فيها الأغاني الوطنية والثورية، ونذيع قصصا تثقيفية عن رموزنا التاريخية، تزامنا مع ذكرى "هود شيكة" إحدى المعارك الكبرى ضد الاستعمار الفرنسي، في الجنوب الشرقي للجزائر، وقد لقيت الفكرة صدى طيبا لدى الأهالي آنذاك.
 
شيئا فشيئا تعززت الروح الإذاعية، وأكثر ما حرَّضني على اقتحام أسوار الراديو وأسراره، وجود إذاعة الوادي، و كانت في ذلك الوقت، تعيش عصرها الذهبي، فغدت متنفسا لولاية معزولة ومهمشة تنمويا، واستطاع مذيعوها وعُمّالها إحياء مدينة كانت تعيش على الهامش.
 
وعلى عكس الكثير من أقراني، لم أترك مجالا للصدفة، لم أنتظر حتى التخرج في كلية الصحافة، لأبحث عن فرصة عمل، حيث كان هدفي الأول إعداد نفسي، بأي طريقة، لأعانق المهنة التي أُحب وأَعشق، لأن أي نتيجة غير هذه، كانت تعني مستقبلا مظلما وغامضا.
 
وللحصول على تلك الفرصة، ينبغي تهيئة الأجواء المناسبة، واجتياز معركة كسب القلوب بنجاح، ففي بيئة تنافسية، لا يمكن أن تتخطى هذه العقبة، إلا متسلحا بمهنيتك ودماثة خلقك وخفة ظلك.
 
اضطرتني الظروف، للانتظار سنة كاملة، لأنجز تلك المهمة، قبل أن أتربع على عرش الميكروفون، وكان ذلك تحديدا في صيف السنة الثالثة من الجامعة.
 
في ظني، أكبر هدية، لطلاب وخريجي كليات الصحافة، الانتساب للإذاعة، فهي أُمُّ المدارس الإعلامية، تهذب الصوت، تعزز ملكات الكتابة، تنمي الارتجال، وتوسع الخيال لوصف الصورة، وبكل بساطة، الإذاعة تعجن الصحفي، وتجعله جاهزا لممارسة المهنة على أصولها.
 
سارت الأمور على هذا النحو، وتنوعت تجربتي، بين تقديم البرامج الترفيهية والتثقيفية والأدبية والاجتماعية وكانت تلك مجرد بداية، لتجربة قصيرة أخرى مع إذاعة متيجة، التي كانت تبث برامجها آنذاك في العاصمة والولايات المجاورة، قبل أن تفتح لي القناة الأولى للإذاعة الجزائرية ذراعيها، بضعة أشهر فقط على تخرجي من الجامعة.
 
أنا الآن في مبنى شارع الشهداء الشهير ذي الطوابق الثمانية، إنه إرث تاريخي عظيم، ومعلم شاهد على صوت الجزائر المستقلة، ولا شك أن المرء محظوظ بانضمامه لهذا الصرح الإعلامي، الذي انتسب له خيرة الصحفيين الجزائريين طوال عقود، لكن العبرة  ليست في الانتساب بحد ذاته للمؤسسة العريقة، وإنما في ترك بصمة بين النجوم وأصحاب الخبرات الطويلة.
 
اللافت أن الأداء الوظيفي هنا يتعرض دوريا للتوجيه الدقيق والمراقبة الصارمة، الإنذارات جاهزة وهامش الخطأ الذي يتم التغاضي عنه في الإذاعات المحلية، خط أحمر في الإذاعة المركزية، وسوف تكتشف في ما بعد، أن هذه هي النواة الصلبة التي تتأسس عليها، وأن الضوابط المهنية المشددة، هي التي ستصنع الفارق في مسارك المهني.
 
ثلاثة برامج قدمتها وأعتبرها نقطة مضيئة في مسيرتي بالإذاعة الوطنية، "صباح الخير يا جزائر" وهي خدمة إذاعية إخبارية، تثقيفية، توعوية .. "الفارس" وهي مسابقة ثقافية مبتكرة مستوحاة من سباقات الفروسية و"رومانسيات" برنامج أدبي يستعرض أجمل القصائد والخواطر في مزج موسيقي راق، والبرنامج الأخير تحديدا شحذ ذائقتي الأدبية ووثَّق عُرى التواصل بيني وبين المستمعين.
 
النقطة الفارقة في مشواري الإذاعي، عندما أسسنا الإذاعة الدولية، صوتنا في العالم، فقد نقلتني من قالب الترفيه إلى عالم السياسة الجاد، حيث كانت تلك التجربة الأجمل والأروع، رفقة درّة من شباب الجزائر، معظمهم مجتهد ومتحمِّس ومبتكر، ووضعت هذه الصفات عددا منهم لاحقا بين الكبار في القنوات العربية والأجنبية.  
 
بعد اثني عشر عاما من مغادرة الإعلام المسموع، إلى المرئي، أجدني مسكونا بالإذاعة، التي تأسرك بعمق الصوت والمكان، بعيدا عن ترف الأشكال والألوان.