عام مضى على سقوط نظام بشار الأسد، وما زالت تداعيات هذا الحدث تشكّل معالم المشهد السوري الجديد، في ظل تحولات استراتيجية داخلية وإقليمية.
في هذا الإطار، جاء انسحاب إيران المفاجئ من الأراضي السورية قبل سقوط الأسد مباشرة ليكشف عن إعادة ترتيب أولويات طهران، وتقديراتها للمشهد العسكري والدبلوماسي، فضلا عن سعيها للحفاظ على مصالحها الإقليمية دون مواجهة مباشرة مع الجيش السوري أو القوى الأخرى.
وكشفت وكالة الصحافة الفرنسية عن خفايا تلك المرحلة الدقيقة، إذ أخلت طهران قنصليتها في دمشق وسحبت قواتها قبل يومين من انهيار النظام، بعد تعليمات رسمية بإنهاء وجود الحرس الثوري، مما يطرح تساؤلات حول موقف إيران الحالي من سوريا الجديدة، وقدرتها على الحفاظ على وحدة الأراضي السورية بعيدا عن التدخلات الخارجية.
انسحاب إيران.. واقع عسكري أم خيار استراتيجي؟
وصف رئيس تحرير صحيفة الوفاق الإيرانية، مختار حداد، خلال حديثه الى غرفة الاخبار على سكاي نيوز عربية ما حدث بأنه تحول دراماتيكي لم يكن نتيجة هزيمة، بل خيار عملي أمام الجيش السوري غير القادر على إدارة المعارك في مناطق عدة.
وأوضح حداد أن إيران كانت حاضرة في سوريا مثل القوات الروسية، لكنها لم تكن لتقاتل نيابة عن الجيش السوري، إذ كان الأخير يتحمل مسؤولية العمليات القتالية، فيما اقتصرت مهمة إيران على الدعم الاستشاري والتدريب.
وأشار حداد إلى أن الاجتماعات الدبلوماسية، بما في ذلك تلك التي جرت في الدوحة على هامش منتدى الدوحة، كانت تهدف إلى فتح حوار بين الحكومة السابقة والمعارضة السورية، إلا أن سقوط النظام حدث بشكل مفاجئ.
وأكد أن إيران لم تركز على نقطة “خسارة سوريا”، بل تتابع التطورات النوعية في المنطقة، مع الحرص على وحدة الأراضي السورية وحماية مصالحها الإقليمية، لا سيما فيما يتعلق بالأكراد والكيان الإسرائيلي.
شدد حداد على أن العلاقات الإيرانية السورية لم تنقطع، فالسفارة السورية تعمل في طهران، وعودة السفارة الإيرانية في دمشق مرتبطة بتحسن الوضع الأمني، وهو ما يعكس نهج إيران الانتظار والترقب للمرحلة الانتقالية السورية، واحترام إرادة الشعب السوري في تحديد مستقبل الحكومة الجديدة.
أولوية الأمن القومي
رأى الكاتب والباحث السياسي مصطفى النعيمي أن انسحاب إيران جاء في سياق إعادة ترتيب استراتيجية الشرق الأوسط، بناء على تغيّر الموقف الأمريكي من التموضع الإيراني داخل سوريا، بعد مرحلة "الفوضى الخلاقة" والصدامات العسكرية المباشرة، خصوصا استهداف قواعد التنف والبرج 22.
وأوضح النعيمي أن الضربات الجوية والاستخباراتية الإسرائيلية والأميركية على قيادات الحرس الثوري وفيلق القدس في دمشق ودير الزور كانت رسائل ردع مباشرة، دفعت إيران إلى إعادة تقييم وجودها العسكري المباشر.
وأشار النعيمي إلى أن إيران، رغم تضحياتها المعلنة، لم تتمكن من فرض مشروعها في سوريا، خصوصا بعد إسقاط النظام، إذ اقتصرت مشاركتها على دعم فلول النظام البائد، وإجراء تدريبات عسكرية في قواعد مثل جرف الصخر وقاعدة الإمام علي، مع محاولة استثمار بعض بؤر التوتر لفرض نفوذها الرمزي.
كما اعتبر أن هذه الانسحاب يوضح الطبيعة التعطيلية للنوايا الإيرانية تجاه الحكومة السورية الحالية، إذ لم تتجه طهران نحو حل سياسي، بل حافظت على أدوات الضغط عبر المكونات العسكرية والدعم اللوجستي للأذرع المحلية في الساحل السوري.
مواجهة إسرائيل.. ساحة سوريا والنزاعات الإقليمية
حداد أشار إلى أن المواجهة المباشرة بين إيران والكيان الإسرائيلي بدأت في سوريا، مع استهداف المستشارين الإيرانيين والقنصلية الإيرانية في دمشق، بعد أن كانت العمليات السابقة أمنية بحتة.
وأكد أن أي مواجهة مستقبلية مع إسرائيل لن تكون مقيدة بالاتفاقيات التقليدية، وأن طهران ستواصل مراقبة تحركات تل أبيب في الأراضي السورية، مع التركيز على حماية وحدة سوريا وأمنها الإقليمي.
كما شدد على أن إيران تعتبر أن أي تفكك داخلي في سوريا يشكل تهديدا مباشرا لأمنها القومي، فضلا عن تأثيراته على العراق وتركيا، مشيرا إلى أن توسع إسرائيل في مناطق سورية يشكل خطرا استراتيجيا على المنطقة.
واعتبر أن ردود إيران على العمليات الإسرائيلية لم تكن محصورة بالتصعيد العسكري المباشر، بل شملت ضبط خطوط التوازن الإقليمي، بما يضمن استمرار نفوذها الرمزي في سوريا والمنطقة.
الانتظار والمراقبة
أشار حداد إلى أن إيران تركز على متابعة الانتخابات السورية القادمة، وتحترم إرادة الشعب السوري، كما في تجاربها مع أفغانستان، حيث تراقب العملية الديمقراطية قبل الاعتراف بالحكومة الجديدة.
وأوضح أن إيران لن تتخلى عن مصالحها، لكنها تتحرك بحذر داخل سوريا، مع مراعاة التغيرات في التوازنات الإقليمية والدولية، خصوصا في ضوء الضغوط الأمريكية والإسرائيلية، إضافة إلى التطورات المتعلقة بالكيان الصهيوني وتحركاته التوسعية.
ركّز النعيمي خلال حديثه على أن إيران ما زالت تستثمر بؤر التوتر، لكنها غير جادة في التعاون مع الحكومة السورية لتحقيق الاستقرار السياسي الداخلي، وهو ما يعكس طبيعة الدور الإيراني التعطيلية، واستمرار استخدامها للمكونات العسكرية والدعم المالي للبقاء كقوة مؤثرة في سوريا والمنطقة.
كما أشار إلى أن الأطراف المدعومة سابقا من إيران، بما في ذلك في لبنان والعراق واليمن، أصبحت الآن أكثر هشاشة بعد إعادة ترتيب الأولويات الدولية، لكن طهران لن تتوانى عن استثمار أي موقع عسكري سابق لتعزيز نفوذها الرمزي.
مشروع إيراني متوقف أم مستمر؟
التحليل المشترك بين حداد والنعيمي يوضح أن الانسحاب الإيراني لم يمثل نهاية المشروع الإيراني في سوريا، بل إعادة ترتيب أولوية استراتيجيّة بين الحضور العسكري المباشر والحضور الرمزي في بؤر التوتر.
إيران لم تتخلّ عن أدواتها العسكرية السابقة، لكنها انتقلت إلى سياسة مراقبة وحذر، مع محاولة الحفاظ على مصالحها الإقليمية، بما يشمل أمن الحدود ومواجهة التوسع الإسرائيلي.