شهد العالم خلال السنوات الأخيرة زخماً غير مسبوق في مجال الذكاء الاصطناعي، إذ تحولت التكنولوجيا من مجرد فكرة مبتكرة إلى محرك رئيسي للتحولات الاقتصادية والتجارية.
يراقب المستثمرون والشركات على حد سواء عن كثب هذا التطور، في ظل سباق عالمي للاستفادة من الإمكانات التي يطرحها الذكاء الاصطناعي على نطاق واسع.
وقد أصبح الحديث عن الذكاء الاصطناعي مرتبطاً بشكل مباشر بقدرة الشركات على النمو وتحقيق أرباح مستدامة، في وقت تشهد فيه الأسواق العالمية موجة من التفاؤل والاستثمارات الطموحة، ما يعكس الثقة الكبيرة في أن هذه الثورة الرقمية قادرة على إعادة رسم معالم الاقتصاد الحديث.
ومع قرب حلول العام الجديد، يواجه القطاع مرحلة انتقالية تتطلب توازناً دقيقاً بين الطموح والإدارة الحكيمة، حيث سيُختبر مدى قدرة الشركات على تحويل الفرص التكنولوجية إلى نتائج ملموسة، في ظل المخاوف الممتدة بشأن التقييمات المرتفعة لأسهم الـ AI في وول ستريت، وسيناريوهات "الفقاعة المالية" التي تفرض نفسها على الأجواء.
لا علامات على التباطؤ
في هذا السياق، يشير تقرير لـ TheStreet، إلى أنه:
- لا تظهر حتى الآن أي علامات على تباطؤ "ثورة الذكاء الاصطناعي".
- دفع ازدهار الإنفاق على روبوتات الدردشة والذكاء الاصطناعي مزودي خدمات مراكز البيانات السحابية والمؤسسات إلى الإسراع في تحديث معداتهم، واستبدال الخوادم القديمة التي تعمل بوحدات المعالجة المركزية (CPU) برفوف من الجيل التالي تعمل بشرائح وذاكرة مصممة خصيصًا للذكاء الاصطناعي.
- لم نشهد هذا القدر من الحماس - وهذا القدر الهائل من إعادة تنظيم ميزانيات تكنولوجيا المعلومات - منذ فجر الإنترنت.
- وحده الزمن كفيلٌ بإثبات ما إذا كان تأثير الذكاء الاصطناعي سيتجاوز تأثير الإنترنت، لكن الشركات تراهن بشدة على ذلك.
ويضيف التقرير: إن شركات Hyperscalers، أكبر مزودي مراكز البيانات على مستوى العالم، تنفق مئات المليارات على الأدوات والمعدات اللازمة لتطوير نماذج الذكاء الاصطناعي وتشغيلها.
على سبيل المثال، كتبت شركة إدارة الأموال Fidelity Investments مؤخراً في تقرير بحثي أن خدمات AWS التابعة لشركة أمازون، وAzure التابعة لشركة مايكروسوفت، وGoogle Cloud، وMeta Platforms قد زادت الإنفاق "من حوالي 100 مليار دولار في عام 2023 إلى أكثر من 300 مليار دولار في عام 2025 - وهو رقم قد يتجاوز نصف تريليون دولار في غضون السنوات القليلة المقبلة".
وبالمثل، استحوذت حمى الذكاء الاصطناعي على قلوب وعقول المستثمرين، الذين قاموا بشراء أسهم الذكاء الاصطناعي الأعلى قيمة على مدى العامين الماضيين، على أمل أن تترجم كل هذه الاستثمارات في نهاية المطاف إلى أرباح أكبر.
وليس المستثمرون الهواة وحدهم من يراهنون. فقد استثمرت أكبر صناديق الاستثمار في الولايات المتحدة بكثافة في أسهم الذكاء الاصطناعي.
عام استثنائي
يقول خبير أسواق المال، العضو المنتدب لشركة "أي دي تي" للاستشارات والنظم التكنولوجية، محمد سعيد، لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية":
- المشهد في العام 2025 كان استثنائياً بكل المقاييس؛ إذ أثبتت أسهم الذكاء الاصطناعي أنها القوة المحركة للأسواق العالمية.
- قادت تلك الأسهم قطاعات التكنولوجيا لتحقيق قفزات سعرية قياسية جعلت من شركات الرقائق والبنية التحتية نجوماً لامعة في سماء الاقتصاد العالمي.
- هذا الزخم جاء مدعوماً بإنفاق هائل من الشركات الكبرى لتطوير قدراتها الرقمية، وسط سباق عالمي للاستفادة من الثورة الصناعية الجديدة.
ويضيف أنه مع اقتراب العام 2026، بدأت ملامح مرحلة جديدة تتسم بقدر أكبر من الواقعية، إذ لم يعد الرهان على الذكاء الاصطناعي مجرد قصة تكنولوجية جذابة، بل أصبح هناك اختبار حقيقي للأرباح والتدفقات النقدية، مؤكداً أن الأسواق ستبدأ في التفرقة بين الشركات التي تمتلك مقومات مالية قوية ومنتجات تدر عوائد مستدامة، وتلك التي تعتمد فقط على الضجيج الإعلامي.
ويشير إلى أن الإنفاق الرأسمالي الضخم على مراكز البيانات والبنية التحتية سيواصل دعم عمالقة تصنيع الرقائق ومزودي الخدمات السحابية، ما يخلق فرصاً واعدة في قطاعات الطاقة والتبريد والكابلات.
إلا أن الجانب المقلق - بحسب سعيد - يتمثل في تضخم التقييمات السعرية وعودة المخاوف من فقاعة مشابهة لتلك التي شهدها العالم في نهاية التسعينات، إضافة إلى تحديات تنظيمية ومنافسة شرسة قد تضغط على هوامش الربحية.
ويشدد على أن العام 2026 سيشهد سوقاً انتقائية بامتياز، تُبرز الشركات القادرة على تحويل الذكاء الاصطناعي إلى أرباح حقيقية، بينما ستواجه الشركات الضعيفة تصحيحاً قاسياً. مؤكداً أن الذكاء الاصطناعي سيظل مغيراً لقواعد اللعبة، لكنه ينتقل من مرحلة الإثارة إلى مرحلة النضج، حيث يصبح النجاح مرهوناً بالأساسيات المالية لا بالآمال وحدها.
طفرة الـ AI
وبحسب تقرير لـ "بيزنس إنسايدر"، فإنه لدى جي بي مورغان بعض الأفكار حول القطاعات التي يجب على المستثمرين البحث فيها عن الفرص في العام 2026 (أسهم الذكاء الاصطناعي من بينها).
وقال الاستراتيجيون إنهم يفضلون تقسيم محفظة الاستثمار بين القطاعات الرئيسية في السوق الأميركية.
وفقا لأندرو تايلر وفيديريكو مانيكاردي، وهما اثنان من كبار الاستراتيجيين في مكتب استخبارات السوق في جي بي مورغان، فإن البنك يفضل أسهم التكنولوجيا ذات القيمة السوقية الضخمة، وخاصة تلك المرتبطة بالذكاء الاصطناعي .
- على الرغم من العثرة التي حدثت في شهر نوفمبر، لا تزال أسهم الذكاء الاصطناعي تشكل أعلى الاستثمارات في السوق في العام 2025.
- ارتفع صندوق Roundhill Magnificent Seven ETF، الذي يتكون من سبعة من أهم الشركات في تجارة الذكاء الاصطناعي، بنسبة 23.7 بالمئة هذا العام.
محطة فارقة
بدوره، يقول خبير الذكاء الاصطناعي والتحول الرقمي من جامعة سان هوزه الحكومية في كاليفورنيا، الدكتور أحمد بانافع، لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية":
- العام 2025 شكّل محطة فارقة في مسار الذكاء الاصطناعي، بعدما شهد العالم موجة استثمار تاريخية، تقودها شركات عملاقة على رأسها "إنفيديا" كمزوّد أساسي لوحدات معالجة الرسوميات، إلى جانب تنافس محتدم بين "مايكروسوفت" و"أمازون" و"غوغل" لتطوير منصات سحابية مدعومة بالنماذج التوليدية.
- رغم هذا الزخم الهائل، بدأت تظهر بوادر إنهاك داخل السوق، بعد أن فشلت بعض الشركات في تحويل تجارب الذكاء الاصطناعي إلى منتجات ناجحة تجارياً، كما أن التقييمات السوقية لعدد محدود من الأسهم ارتفعت بوتيرة أسرع من قدرة هذه الشركات على تحقيق أرباح فعلية، وهو ما يثير تساؤلات جوهرية حول مدى استدامة هذه الطفرة.
ويضيف أن العام 2026 سيكون عاماً فاصلاً بين الرابحين والحالمين، موضحاً أن التقديرات تشير إلى يصل الإنفاق العالمي على الذكاء الاصطناعي مستويات قياسية، مدفوعاً بتوسع تطبيقاته في قطاعات الصناعة، والصحة، والخدمات المالية، والنقل.
لكنه يحذّر في الوقت ذاته من أن الأسواق تقف عند واحدة من أعلى مستويات التقييم التاريخية، ما يجعل أسهم النمو، وعلى رأسها أسهم الذكاء الاصطناعي، عرضة لتصحيحات فجائية في حال خابت التوقعات.
ويوضح بانافع أن استمرار الزخم في 2026 يستند إلى ثلاث ركائز أساسية:
- الاستثمار الرأسمالي طويل الأجل الذي تتبناه الشركات الكبرى باعتبار الذكاء الاصطناعي بنية تحتية اقتصادية وليست مجرد موجة عابرة.
- التحول من مرحلة التجارب إلى التوظيف الفعلي في أدوات الإنتاجية والهواتف والسيارات والبرمجيات الطبية.
- اتساع قاعدة المستفيدين لتشمل قطاعات الصناعة والزراعة واللوجستيات والتعليم، بما يحوّل الذكاء الاصطناعي إلى محرك نمو شامل.
مخاوف "الفقاعة"
وفي المقابل، يحذّر من سيناريو تصحيحي قاسٍ، مؤكداً أن الفجوة بين التقييمات والعوائد، وتشبع قدرات مراكز البيانات، والاعتماد المفرط على النماذج التنبؤية دون قفزات نوعية في التفكير التحليلي العميق، كلها عوامل قد تقود إلى اهتزازات قوية في الأسواق.
ويتابع بانافع أن المشهد الحالي يشبه إلى حد كبير ما عاشه العالم خلال فقاعة الدوت كوم عام 1999، حيث اندثرت شركات كثيرة بعد انفجار الفقاعة، بينما خرجت شركات مثل "أمازون" و"غوغل" لتقود الاقتصاد العالمي لاحقًا، لافتاً إلى أن الذكاء الاصطناعي اليوم يقف عند مفترق طرق مشابه.
لكنه يرى أن الذكاء الاصطناعي ليس فقاعة في جوهره، لكنه قد يتحول إلى فقاعة في بعض أسهمه، مشددًا على أن أسواق المال لا تكافئ الأفكار وحدها، بل تطالب بنماذج أعمال واضحة وعوائد مستدامة، وأن عام 2026 سيكون عام الأسئلة الصعبة: من يربح فعلًا؟ ومن يملك القدرة الحقيقية على البقاء والمنافسة؟