قرن ونيف لعب فيها المقهى دور البرلمان الشعبي الذي لا تعلق جلساته ولا يؤخذ فيه مثقف برأيه أو وجهة نظره، فعلى خشبة مسرحه حين كان مفتوحا على الميدان شدت كوكب الشرق أم كلثوم بروائع الطرب أواخر العشرينيات، ولعب محمد عبد القدوس وروز اليوسف أجمل أدرواهما قبل أن يربطهما رباط الزواج المقدس.

وعلى طاولاته الممتدة تناول نجيب محفوظ قهوته الصباحية آلاف المرات، من لا يعرف مقهى ريش ورواده لا يعرف حيوية مصر في النصف الأول من القرن العشرين، ولا يعرف سعيها لتحقيق حلم الوحدة والاستقلال الوطني والعدالة الاجتماعية في خمسينياته وستينياته، من لا يعرف مقهى ريش ورواده لا يعرف وقفة المثقفين المصريين والعرب ضد الصلح مع إسرائيل وتصديهم لسياسة الانفتاح "السداح مداح" في سبعينياته.

من لا يعرف مقهى ريش ورواده لا يعرف وقفة المصريين ومفكريهم ضد هجمات الإرهاب البربرية حين تطاولت على قامات مصر الفكرية، من لا يعرف مقهى ريش ورواده لا يعرف كيف تحول حلم التغيير الثوري إلى حقيقة واقعة في الخامس والعشرين من يناير. ولا يعرف كيف انتفض المصريون على حكم جماعة خاصمت الشعب والأرض فكان مصيرها الإجبار على الرحيل 

من لا يعرف مقهى ريش ورواده ينقصه الكثيرمن المعرفة عن مصر وقوتها الناعمة واحتضانها للجميع مهما اختلفت رؤواهم وتنوعت آراؤهم.

لم يتصور أحد أن مقهى ريش سيغلق أبوابه، وسنوات الإغلاق الإجباري التي صادفها المقهى خلال سنوات عمره الممتدة لم تكن سوى استراحة محارب يتهيأ بعدها لمواصلة حربه ضد الظلم والظلام، لكن هذه المرة أغلق مقهى ريش أبوابه حزنا على رحيل حارسه المثقف الواعي مجدي عبد الملاك.

فبعد صراع مع المرض "كان صراعا بين متكافئين" حمل مجدي عبد الملاك همومه وأحلامه التي لم تتحقق وحرصه الدائم على بقاء مقهى ريش شامخا ورحل تاركا ريش المبنى حزينا لا يعرف مصيره وريش المعنى كئيبا يبحث عمن يدافع عنه.

قبل سنوات خاض مجدي عبد الملاك حربا ضد ضياع هوية وسط القاهرة وبقاء ريش حاضرا في قلب المشهد، الآن رحل مجدي وبقيت الفكرة تبحث عمن يتبناها.

إن قائمة رواد ومحبي مقهى ريش طويلة وممتدة في الوطن العربي من محيطه إلى خليجه ومهمة الحفاظ عليه وحمايته من عبث العابثين وأطماع الطامعين بعد رحيل مجدى عبد الملاك فى أعناقهم جميعا.

صحيح أن جهود المثقف الواعي نبيل عبد الفتاح وغيره من الغيورين على مقهى ريش المبنى والمعنى متواصلة لكن الأمر يحتاج لتدخل وزارة الثقافة وأجهزة الدولة لضمان بقاء رسالة مقهى ريش كمكان يحتضن الجميع ويحفظ سيرة وطن ومسيرة أبنائه لأكثر من قرن من الزمان.