تواصل الحرائق الغابية زحفها النهم على مساحات شاسعة من الخضراء في إطار نشاطها الهستيري الذي دب في تونس بصفة ملحوظة بعد الثورة، حيث باتت هذه الحرائق المتواصلة والمتتابعة لغرا محيرا يسهم في مزيد رفع سقف التحديات أمام الجهات المعنية والرأي العام التونسي.
معضلة حرائق الغابات في "البلاد الخضراء" باتت تقض مضاجع التونسيين ، والشك يراود الجميع حيالها، فالبعض يشم في احتراقها رائحة "الجريمة البيئية الإرهابية" المدبرة والبعض الآخر يعلق مخاطرها وأضرارها على شماعة الطبيعة، ويربط اندلاعها بارتفاع درجات الحرارة، لكن تعاقب الحرائق وانتشارها واسترسالها يقلق جديا الكل ويدق ناقوس الخطر على أكثر من صعيد.
فالحرائق لا تكاد تخمد وقد يسجل في اليوم الواحد أكثر من حريق واحد وربما ثلاثة في مختلف المناطق، وآخرها كان في منطقة قرمبالية بولاية نابل، والمعروفة بمساحاتها الخضراء الممتدة، حيث أتت النيران على 20 هكتارا (200 ألف متر مربع)، وقد نال حريق آخر أيضا من منطقة البطان بولاية منوبة بالعاصمة والحصيلة في ارتفاع وتوسع مطرد.
لهيب نهم
رائحة الاحتراق وصوت سيارات الإطفاء خبز شبه يومي بات التونسي يعهد ولا يستغربه البتة، فقد سجلت الإدارة العامة للغابات في تونس خلال الفترة المتراوحة بين 25 و29 يوليو 2014، اندلاع 30 حريقا بست ولايات هي بن عروس وزغوان وسليانة والكاف والقصرين وجندوبة. وقد تراوح العدد اليومي للحرائق بين 5 و6 حرائق، في الفترة المذكورة، ووصل إلى 6 حرائق يوم عيد الفطر.
وظل تواتر اندلاع الحرائق على نفس الوتيرة خلال الأسبوع الأول من أغسطس الجاري، وشملت الحرائق جميع مناطق الشمال الغربي والشمال، والشمال الشرقي وبعض غابات الوسط، وكأن الحرائق سلسلة منظومة تتداعى حلقاتها تباعا، فلا تكاد تخمد واحدة حتى تكشر الأخرى عن أنيابها.
فمنذ دخول صيف 2014 تتالت الحرائق وفي مناطق مختلفة شملت المناطق الداخلية ومناطق بتونس الكبرى، ولم يسلم جبل النحلي الواقع بمنطقة رواد من ولاية أريانة شمال غربي العاصمة من الحرائق، ليبقى حريق منتزه النحلي الذي قدرت فيه المساحة التي أتت عليها النيران تقريبا بـ59 هكتارا (590 ألف متر مربع)، أخطر وأكثر الحرائق التي كان لها أثر في نفس التونسي مع العلم أنّ المساحة الجميلة للمنتزه تقدّر بـ225 هكتارا (2.25 مليون متر مربع).
ولم تعهد تونس حمى الحرائق التي تعيشها اليوم سابقا، حيث تسارعت وتيرة الحرائق ما بعد الثورة، فقد سُجّل العام الماضي 300 حريق أتلفت النيران على إثرها 4 آلاف هكتار (40 ألف متر مربع)، في حين أنّ معدل الحرائق كان خلال العشرية الماضية في حدود 150 حريقا، ولم تتجاوز مساحة الأراضي والغابات المتضررة منها ما بين 1500 و1800 هكتار أي ما بين 15 و18 مليون متر مربع.
تحديات مستعرة
ويعتبر أول تحدي تعيشه تونس في هذا الإطار، هو الإجابة عن سبب ارتفاع هذا العدد اللا معهود، والمتزامن والمتواتر من الحرائق وإماطة اللثام عن لغز نهم اللهيب الذي ينال من الخضراء على أكثر من صعيد، وأما التحدي الثاني فوقف مد هذه الحرائق ولملمة تداعياتها.
فهناك 250 ألف أسرة في تونس تعيش بالغابات التي تواجه في ثلاثة أرباعها في الشمال الغربي تحديات جسيمة، حيث تمعن الحرائق في زيادة مشاق سكان هذه المناطق بعد أن تراجعت مساحة إحدى أنواع الغابات بـ50 بالمائة.
وقد تسببت 107 حرائق شبت بالغابات في أنحاء متفرقة بتونس خلال موسم الصيف في اتلاف قرابة 450 هكتار (4.5 مليون متر مربع) من الغابات وفق اخر إحصائيات وزارة الفلاحة التونسية.
كما مثلت الأحداث التي يشهدها جبل الشعانبي والمتاخم للحدود الجزائرية، الحلقة الأخطر في مسلسل التهديدات للغابات في تونس، حيث تسببت العمليات العسكرية التي يقوم بها الجيش التونسي لمطاردة المسلحين في الجبل، باندلاع حرائق كبيرة فأتت النيران على قرابة 10%من الكساء الغابي للجبل.
وقد بذلت جهود حثيثة للسيطرة عموما، وأهمها المجهود الذي استنزف في إخماد حريق اندلع في غابة في محافظة بنزرت الشمالية، لكن الحصيلة كانت موجعة وهي عبارة عن 100 هكتار (مليون متر مربع) من أشجار الصنوبر التي تشكل ثروة طبيعية ميزت المنطقة لقرون.
واقع جعل العديد من التونسيين يذهبون إلى اعتبار أن مارد الحرائق الذي خرج من قممه وانبرى يبتلع مساحات شاسعة من الغابات التونسية، لم ينطلق بمفرده وإنما حركته يد إجرامية وسمحت له بالعربدة.
ورغم جسامة هذه الجرائم البيئية التي تنتهك فيها الثروات الطبيعية التونسية، فإن نتائج التحقيقات فيها غالبا ما تسجل ضد مجهول وليبقى ملف اغتيال الثروات الغابية مفتوح على مفترق طرق، لكن يبقى الخوف الأكبر الذي يقض مضجع السلطات الرسمية في تونس اليوم بعد الاخفاق في معرفة هوية الجاني الحقيقي في هذا الملف، متعلقا باقتراب هذه الحرائق من بعض المناطق الحساسة على غرار شركات تكرير النفط وبعض القواعد العسكرية أو محطة الإرسال الإذاعي والتلفزيوني المتمركزة بأعلى قمة جبل الشعانبي في محافظة القصرين، الذي تعرض لسلسة من الحرائق كانت بعضها بفعل عمليات التمشيط العسكري للمنطقة الجبلية التي يحاصر فيها الأمن التونسي المسلحين.
وتتنامى الخسائر البيئية والمناخية والحيوانية والديمغرافية في إطار فوبيا هذه الحرائق التي لم تتمكن التحقيقات المفتوحة في إطارها من إماطة اللثام على وجه الغموض فيها، ويبقى اعتبارها مسجلة ضد مجهول معضلة أكبر تطرح على الخضراء عبء إضافيا يضاف إلى أعبائها الاقتصادية والأمنية، خاصة وأن العديد من الخبراء أكدوا مؤخرا أن تواصل وضع الحرائق في تونس بهذا النسق سينتهي في 2015 إلى القضاء على جميع مجهودات التشجير التي بذلتها تونس منذ ما لا يقل عن نصف قرن.