يجمع خبراء طاقة على أن الولايات المتحدة تعاقب نفسها بتخليها عن استيراد اليورانيوم الروسي المخصّب، مثلما عاقب الاتحاد الأوروبي نفسه عندما حظر استيراد النفط والغاز الروسي، إبان اندلاع الحرب على أوكرانيا في 24 فبراير 2022، ما ترك أثراً سلبياً كبيراً على المستوى الاقتصادي العام لبلدان أوروبا وعلى مستوى الحياة اليومية للأسر فيها نتيجة ارتفاع التضخم الذي سببه وصول أسعار الطاقة لمستويات غير مسبوقة.
ويوضح الخبراء أن 24 بالمئة من الوقود النووي الذي تستخدمه محطات الطاقة النووية الأميركية يأتي من روسيا، وبالتالي لا تملك أميركا حالياً طاقة إضافية لتوسيع إنتاجها من هذه المادة وتعويض الحصة التي ستفقدها جراء التشريع الأخير، مشيرين إلى أنها حتى لو حصلت على اليورانيوم من وجهات أخرى فإنها لن تستطيع الحصول على الأسعار التي كانت تحصل عليها من روسيا وخصوصاً أن اليورانيوم الروسي يعتبر الأقل تكلفة على مستوى العالم.
العقوبات الغربية
ووقع الرئيس الأميركي جو بايدن الثلاثاء تشريعاً يحظر استيراد اليورانيوم المخصب الروسي ليصبح قانوناً، وذلك في أحدث مساعي واشنطن لتجفيف أحد مصادر تمويل الكرملين، على أن يبدأ الحظر في غضون 90 يوماً، في حين سمح لوزارة الطاقة بإصدار إعفاءات في حالة وجود مخاوف بشأن الإمدادات.
وقال مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان في بيان: "وقع الرئيس على سلسلة تاريخية من الإجراءات التي ستعزز أمن الطاقة والاقتصاد في بلادنا، من خلال تقليل اعتمادنا على روسيا للحصول على الطاقة النووية المدنية، والتخلص منه في نهاية المطاف".
وتعد وروسيا أكبر مورد لليورانيوم المخصب في العالم، كما أنها لا تزال واحدة من أهم مصدري الطاقة في العالم على الرغم من العقوبات الغربية المفروضة على قطاع النفط والغاز الروسي على خلفية الحرب الروسية الأوكرانية، حيث حظر الاتحاد الأوروبي النفط والغاز الروسي وتعهد بإنهاء اعتماده على صادرات الغاز من روسيا بحلول عام 2030، كما فرضت الدول الغربية حداً أقصى لسعر برميل النفط الخام الروسي المنقول بحراً عند 60 دولاراً، وسقف سعر على المشتقات النفطية الروسية بواقع 100 دولار للبرميل للمنتجات الأعلى سعراً مثل وقود الديزل والبنزين في حين تم تحديد قيمة المنتجات الأقل جودة عند 45 دولاراً للبرميل، وذلك بهدف حد قدرة اقتصاد روسيا على تمويل الحرب.
الاقتصاد الروسي بنمو أسرع من جميع الاقتصادات المتقدمة
وبعد نحو عامين من الحرب والعقوبات الغربية على روسيا سجل الاقتصاد الروسي في العام 2023 نمواً بنسبة 3.6 بالمئة هو الأعلى خلال العقد الماضي، باستثناء فترة الجائحة، كما توقع صندوق النقد الدولي لاقتصاد البلاد أن ينمو بشكل أسرع من جميع الاقتصادات المتقدمة، حيث رجح أن ينمو بنسبة 3.2 بالمئة في عام 2024، وهو ما يتجاوز معدلات النمو المتوقعة للولايات المتحدة (2.7 بالمئة)، والمملكة المتحدة (0.5 بالمئة)، وألمانيا (0.2 بالمئة) وفرنسا (0.7 بالمئة).
في حديثه لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" قال الدكتور ممدوح سلامة خبير النفط والطاقة العالمي: "إن الولايات المتحدة تعاقب نفسها عندما تحظر استيراد الوقود النووي الروسي، إذ أن روسيا تعد أكبر منتج لليورانيوم المخصب في العالم والذي يستخدم وقوداً للمحطات النووية، حيث تنتج 80 بالمئة من إجمالي الإنتاج العالمي من اليورانيوم وتملك التكنولوجيا الأكثر تقدماً في هذا المجال".
كيف تعوض أميركا خسارة اليورانيوم الروسي ؟
وأضاف سلامة: "بينما تستورد الولايات المتحدة 24 بالمئة من حاجة مفاعلاتها النووية من الوقود النووي من روسيا يتبادر للأذهان عديد من الأسئلة أبرزها، هل تستطيع الولايات المتحدة أن تتوقف كلياً عن استيراد الوقود الروسي، وهل بإمكانها أن ترفع طاقة إنتاجها بحيث تستطيع أن تعوض خسارة الصادرات الروسية، وهل بإمكانها الحصول على جزء من حاجتها من دول نووية أخرى؟
يجيب سلامة على هذه التساؤلات بنفسه قائلاً: "الواقع والحقيقة يؤكدان أن الولايات المتحدة لا تملك في الوقت الراهن طاقة إضافية لتوسيع إنتاجها من الوقود النووي وإحلاله محل الصادرات الروسية، بل إنها تحتاج إلى أكثر من عامين لبناء مثل هذه الطاقة إضافة إلى أنها تحتاج إلى وقت لتأمين احتياجاتها في غياب الصادرات الروسية من دول تنتج هذه الطاقة مثل فرنسا وكندا وربما أوكرانيا ولكن هذه الدول بحد ذاتها تحتاج إلى الوقود النووي لتشغيل مفاعلاتها النووية، ونعلم أن روسيا تُصّدر نسبة كبيرة مما يحتاجه الاتحاد الأوروبي من الوقود النووي".
"من هنا يجدر القول إن الولايات المتحدة تعاقب نفسها عندما تحظر استيراد الوقود النووي الروسي مثلما عاقب الاتحاد الأوروبي نفسه عندما حظر استيراد النفط والغاز الروسي، وهو يدفع الثمن حالياً بتعثر اقتصاده حيث من المتوقع نمو الناتج المحلي الإجمالي لمنطقة اليورو بنسبة 0.8 بالمئة في عام 2024، بحسب تقديرات المفوضية الأوروبية، بينما رجح صندوق النقد الدولي نمو الاقتصاد الروسي بنسبة 3.2 بالمئة هذا العام" طبقاً لما قاله الدكتور سلامة.
ورداً على سؤال حول السبب الذي يدفع الولايات المتحدة لمعاقبة نفسها بهذه الطريقة أجاب خبير النفط والطاقة العالمي: هناك عدة أسباب تدفع الولايات المتحدة لحظر استيراد اليورانيوم المخصب الروسي أبرزها أن الحزب الجمهوري الأميركي يحث على ذلك، فهو يبحث دائماً عن عقوبات جديدة ضد روسيا، ولكن هذه العقوبات فشلت فشلاً ذريعاً وأي عقوبات جديدة لن تؤتي ثمارها، وهناك سبب سيكولوجي يتجلى في إدراك أميركا بعدم القدرة على طرد روسيا من أوكرانيا على الرغم من مساعداتها الكبيرة لأوكرانيا وهذا يغيظ واشنطن، فضلاً عن أن الرئيس بايدن ينافس الزعماء الجمهوريين ويثبت لهم أن عداوته لروسيا والرئيس بوتين لا تقل عن عداوتهم له".
ارتدادات التشريع الأميركي
بدوره، قال عامر الشوبكي مستشار الطاقة الدولي في حديثه لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية": "تعاقب الولايات المتحدة نفسها بحظر استيرادها لليورانيوم الروسي، ومن المتوقع أن يكون لهذا القانون ارتدادات على الاقتصاد الأميركي، لجهة رفع أسعار اليورانيوم إذ ربما لا تستطيع بعض المفاعلات تأمين حاجتها من اليورانيوم، وإن استطاعت فسيكون ذلك على حساب سعر المادة والذي سيتبعه ارتفاع سعر الكهرباء، حيث إن نحو 24 بالمئة من تلك الوقود النووي الذي تستخدمه محطات الطاقة النووية الأميركية تأتي من روسيا".
كما أن الولايات المتحدة أيضاً تستورد نحو 70 بالمئة من حاجتها لليورانيوم وتنتج 30 بالمئة، وجزء من حاجتها يأتي أيضاً من كازاخستان وأوزبكستان اللتان ربما في مرحلة معينة تتبعان القرارات الروسية إما بمنع هذه المادة عن الولايات المتحدة أو برفع الأسعار، وخصوصاً أن لدى الولايات المتحدة 94 مفاعلاً نووياً وتؤمن من خلالها جزءاً كبيراً من حاجتها من الكهرباء، بحسب الشوبكي الذي أوضح أن الطاقة النووية تشكل نحو 20 بالمئة من حاجة الولايات المتحدة من الكهرباء وبالتالي أي خلل في أسعار الوقود النووي سيؤثر على أسعار الطاقة الكهربائية المستهلكة.
البدائل الأميركية
ورد على سؤال حول بدائل الولايات المتحدة من اليورانيوم الروسي قال عامر الشوبكي: "يوجد ضمن بنود التشريع الأميركي بعض المنافذ لمعالجة جزء من ارتداداته إذ يوجد 90 يوماً لبدء نفاذ القانون كما هناك فترة زمنية حتى العام 2028 لاستثناء بعض المفاعلات من استيراد الوقود النووي الروسي وهذه الاستثناءات لمعالجة الآثار العكسية لهذا القانون كما خصص القانون نحو 2.7 مليار دولار لتعزيز صناعة وقود اليورانيوم في الولايات المتحدة، فضلاً عن وجود دول مثل فرنسا وكندا واليابان يمكن أن تؤمن منها الولايات المتحدة حاجتها من الوقود النووي الذي ستفقده من روسيا بعد دخول القانون حيز التنفيذ".
ولكن كيف تضر أميركا نفسها إذاً؟
يجيب الشوبكي على التساؤل بقوله: "حتى لو حصلت الولايات المتحدة على اليورانيوم من وجهات أخرى أو حتى لو غطت حاجتها من اليورانيوم من خارج نطاق روسيا فإنها لن تستطيع الحصول على الأسعار التي كانت تحصل عليها من روسيا وخصوصاً أن اليورانيوم الروسي يعتبر من الأقل تكلفة على مستوى العالم".
وفي الوقت ذاته يشير الشوبكي إلى أن هذه العقوبات بالطبع ستفضي إلى تقليص إيرادات روسيا من بيع الوقود النووي وخصوصاً أن شركة روساتوم الروسية للطاقة النووية تدر مليارات الدولات على الخزانة الروسية من بيع هذه المادة".
"تمييزي وغير تنافسي".. هكذا ردت روسيا
أعربت شركة "روساتوم" الحكومية الروسية، الأربعاء، عن استيائها من قانون حظر استيراد اليورانيوم المخصب الروسي المُعتمد في الولايات المتحدة.
ووصفت الشركة القرار بأنه تمييزي وغير تنافسي، مؤكدة أنه يضر بالسوق العالمي المستدام للسلع والخدمات النووية.
وأكدت "روساتوم" على قدراتها التكنولوجية في مجال الطاقة النووية وتوازن نشاطاتها في جميع جوانب الدورة الوقودية النووية، مشددة على أن "الشركات الروسية في مجال الطاقة النووية تتمتع اليوم بأحدث قواعد التصنيع والتكنولوجيا".
كما أشارت الشركة إلى أن استراتيجيتها للريادة التكنولوجية العالمية توفر نتائج ملموسة في تعزيز التعاون مع الدول المهتمة بتطوير توليد الطاقة النووية ضمن نهج علمي ومتوازن.
ولفتت الشركة إلى تلبية الاحتياجات المتزايدة لإنتاج اليورانيوم في الطاقة النووية الروسية هو أيضًا من الاتجاهات الأساسية بالنسبة لـ "روساتوم".
ومن المتوقع أن ترتفع حصة توليد الطاقة النووية في الرصيد الطاقي لجمهورية روسيا الاتحادية إلى 25 بالمئة بحلول عام 2045، مقارنة بالنسبة الحالية التي تبلغ 20 بالمئة.
وبالتالي، تحتفظ "روساتوم" بمكانتها الرائدة عالميًا في التكنولوجيا النووية اليوم وستواصل تطوير العلاقات مع الشركاء الأجانب المهتمين بالتعاون على المدى الطويل.