لم تكشف التحقيقات عن رابط بعد بين تلك الوفيات الغامضة لمؤسسي واصحاب شركات المشفرات وما يواجهه سوق اصول المضاربة الرقمية تلك من مشكلات وإفلاسات. لكن المعلومات الأولية عن إفلاس تلك المجموعة الكبيرة التي أسسها ملياردير شاب آخر من أصحاب المليارات المفاجئين أشارت إلى شبكة من التعاملات والترابط مريبة إلى حد كبير – رغم قانونيتها الظاهرية.

فالملياردير الأميركي صاحب مجموعة إف تي إكس المنهارة أسس أكثر من مئة شركة تحت مظلة مجموعة فرعية للتداول في المشفرات، وقام بالاقتراض من بعضها بالمليارات واقترض عبرها من شركات أخرى. وكان ذلك أحد اسباب انهيار شركة بلوك فاي التي أفلست أيضا هذا الأسبوع وتطالب ذلك الملياردير بعشرة مليارات دولار اقترضها عبر مجموعته الفرعية. ولم تستطع الشركة الأخيرة الحصول على ضمانة قرض قدمها الملياردير المفلس هي عبارة عن حصته من أسهم واحدة من أبر منصات التداول الرقمية، روبن هود، التي طالما تشجعت بتغريدات أغنى رجل في العالم الملياردير الأميركي إيلون ماسك.

ربما لا يعرف كثيرون عن عالم العملات المشفرة والأصول الرقمية سوى عدد محدود من العملات مثل الشهيرة بيتكوين أو إيثيريوم، لكن هناك عدد غير معروف من تلك العملات بعضها وهمي حتى مثل دوجي كوين التي روج لها إيلون ماسك من قبل. لكن منذ انتفخت فقاعة هذا القطاع قبل سنوات قليلة أصدر كثيرون عملات مشفرة وأصولا رقمية لا تسند إلى أي قيمة مادية. ويتم التداول في هذا القطاع بمئات المليارات ووصل حجمه في فترة الصعود إلى أكثر من تريليوني دولار.

اجتذبت تلك التداولات في الأصول الرقنمية الملايين من المغامرين الساعين وراء الربح الكبير والسريع دون أي مجهود يذكر، وأغلب هؤلاء من الداخلين إلى مجال التعاملات المالية المماثلة للمرة الأولى. وتكونت مئات الشركات والمنصات وطورت مئات التطبيقات التي توفر التعامل في العملات المشفرة والأصول الرقمية الأخرى. واستنادا إلى عدة مليارات من أموال حقيقية من حسابات الزبائن، قام أصحاب تلك الشركات والمنصات بعمليات اقراض واقتراض فيما بين شركاتهم والشركات المماثلة ضخمت من الأصول الورقية بشكل كبير.

تذكرنا تلك الشبكة من التعاملات والتداولات بالمشتقات الاستثمارية المستندة إلى قروض الرهن العقاري في الفترة السابقة على الأزمة المالية العالمية عام 2008. وحين هبط سوق العقار الأميركي انهارت البنوك والصناديق وكبار المستثمرين المنكشفين على تلك المشتقات المالية ودخل العالم في أزمة مالية كبرى.

ورغم أن هناك توقعات بإفلاس شركات عملات مشفرة ومنصات تداول أصول رقيمة اخرى في الفترة القادمة، أي أنها ستظل أزمة ولو عميقة لكن في قطاع المشفرات والأصول الرقمية فحسب. أما النظام المالي العالمي، وإن تأثر سلبا فلن يكون التصحيح الحاد إلى حد الانهيار الجزئي لسوق المشفرات عاملا في دخوله في أزمة. بل على العكس، قد يستفيد النظام المالي العالمي من ذلك التصحيح الحاد في المشفرات لأنه سيؤدي إلى تبخر مليارات من فقاعة المغالاة في الأصول بشكل عام.

يعود السبب في ذلك إلى أن الميزة الأساسية للعملات المشفرة أنها "خارج النظام" بمعنى أنها لا تخضع للوائح والقيود التي تنظم التداول في العملات الرسمية أو الأوراق المالية التقليدية. ومع أن بعض شركات المشفرات ومنصات تداولها مسجلة رسميا في بعض الدول، إلا أن أغلبها يختار التسجيل في مناطق ذات إجراءات "مرنة" جدا إلى حد الميوعة مثل جزر البهاما وهونغ كونغ وغيرها.

نعم هناك تداخل الآن، مع تسجيل بعض تلك الشركات التي تعمل في مجال المشفرات والأصول الرقمية لأسهمها على مؤشرات أسواق المال الرئيسية. لكن ذلك لا يمثل قدرا كبيرا من الشركات المسجلة على مؤشرات البورصات من ناحية، ومن ناحية أخر فإن تداولات تلك الشركات والمنصات غير محكومة تماما بالقوانين واللوائح والتدقيق المحاسبي التقليدي إلا فيما ندر.

ذلك ما يجعل "تأثير الدومينو" من الانهيارات في قطاع المشفرات محصورا في القطاع وذا أثر محدود على الأسواق التقليدية وبالتالي النظام المالي العالمي عامة. ويمكن القول، بتبسيط وابتسار، أن الأزمة الحالية هي أزمة مشتقات رقمية ربما تدخل قطاع المشفرات وأصول التداول الرقمية في أزمة مثل أزمة عام 2008. لكن انكشاف البنوك والصناديق والمؤسسات المالية التقليدية على المشفرات والأصول الرقمية ليس كبيرا بما يكفي لتفجير أزمة في النظام المالي كله.

يرى بعض غير المتحمسين للعملات المشفرة أن قرار البنوك المؤسسات المالية التقليدية بتجنب الدخول في ذلك القطاع الرقمي كان قرارا صحيحا جنبها الأضرار التي كان يمكن أن تلحق بها الآن لو فعلت العكس. إنما ذلك لن يحول دون دخول المشفرات والأصول الرقمية في النام المالي العالمي فيما بعد، وإن بشكل أكثر اعتدالا وأقل مضاربة ومخاطر.